مجتمع

11.pdf

الزّردةوالأطعمة "المقدّسة"


بقلم: بوجمعة فيالي

كانت الزّردة، وجمعها " الزّرَد" تُقام كلّ عامٍ، وموسمها المفضّل هو الخَريف، ربّما التماسًا من الله تعالى أن يُنزّل الغيث مدرارًا. والزّردة هي عبارة عن احتفال عرش ما بتجمّعه حول وليّ صالحٍ يُقال له سيّدي "فلان " أو جدّي "فلان " تقرّبًا منهم إليه بإقامة الحَفل وذبح رؤوس أغنامٍ وماعزٍ، أو حتّى بقر باسم ذلك الوليّ الصالح.

وقد اشتهر كلّ وليّ صَالح بزردته الخاصّة به وسط عرشه. وأمّا الزّردة في حدّ ذاتها فهي تتميّز بخصوصيّات أهمّها الإشهار عن طريق "برَّاح" معروفٍ بصوته السّمّاع العالي، يكلّفه "شيخُ العَرش" بنشر الخبر للعامّة، ويأمره أن "يُبرّح " في المدينة يوم السّوق الأسبوعيّة معلنًا عن إقامة الزّردة في سِيدي فلان أو جدّي فلان وذكر الولي الصّالح المعنيّ، فيقول هذا البرّاح "اسمَعوا يا أهل عرش كذا وكذا، راهي زردة سيدي فلان تبدا يوم كذا، وتتفرّق (بتثليث القاف) يوم كذا، هانِي بَلّغت". ويظلّ يتجول وسط زحمة السّوق وفي شوارع المدينة وهو يردّد الكلمات نفسها.

والجَدير بالملاحظة أنّ النّساء في الزّردة يكنّ متستّرات داخل مبنى "الجَامع" أيّ الوليّ الصّالح، وهنّ منهمكات في إعداد الكُسكسي للزّردة، أو بالأحرى كُسكسي الزّردة، بينما الرّجال يكوّنون خَارج "الجامع " تجمّعًا ضخمًا يحضُره أفضل الذّكّارة والبنادريّة وعازفي القَصبة (ناي طويل) والعيساويّة ويبدأ الذّكر والبندير، ومن بين الأذكار التي يرددونها: الله يرحم يَامِينا فيمَا جَابت نَابِينا، اللّي اِسمو محمّد، هو اللّي يَشفع فِينَا يَامينا. ويامينا في هذا الذّكر هي آمنة بنت وهب أمّ الرّسول صلى الله عليه وسلم. وجدير بالذّكر أنّ بعض الزّرد كانت تدوم أيّامًا وليالي.

ورجوعًا إلى قصتنا مع الزّردة فإنّه عند المساء يقوم الرّجال المكلّفون بتنظيم الحاضرين بوضعهم في شكل " أدراز" (جمع دُرز) والدّرز هو عدد معيّن من الأنفار للجُلوس حلقةً مستديرةً حول قصعة كُسكسي. والقصيعة تصغير قَصعة تُسمّى مَثرد تُعطى لحوالي أربعة أنفار تقريبًا. وتخرج القصاع والمثارد من الجَامع مملوءة بــكسكسي الزّردة وتُفرّق على الأَدراز . ويكون الكُسكسي باللّحم مشبعًا باللفّاحات مرويّا " بالزّقُو " (بتثليث القَاف) مدهونًا بالسّمن القَديم الفَوّاح تنبعث منه روائح طيّبة تفتح الشهيّة وتُسيل اللّعاب، فيأكل الجميع بنهم شديدٍ بواسطة "غَناجي" مَصنوعة من عود الزّيتون أو البَطّوم أو القِيقب أو الزّعرور. والغناجي جمع غُنجايَة أي مِلعقة مغنّجة بوشام أسود محرُوق بالنّار ، وهي صناعة تقليديّة رائعة.

وبانتهاء الأكل والشّرب تتفرق الزّردة، أي يَنصرف الجَمع كلّ في حال سبيله. وخُلاصة القصة أنّه إن كان للزّردة إيجابيات فتظهر في حضور النّاس على صعيد واحدٍ يتبادلُون التّحايا ويُبدون التّسامح فيما بينهم، ويأكلون "الملحَ"سويًّا كما يقال وإضفاء صبغة من البَهجة والسّرور على الحضور بتلك التّهاليل والأذكار. أمّا أسوأ ما فيها فهو التبرّك بذلك الوليّ الصّالح، وذبح الأنعام باسمه، وهو ما يعدّ مخالفًا للعقيدة الإسلاميّة المنيّة على التّوحيد ونبذ الشّرك.


أهمّية العادات والتّقاليد في المجتمع


بقلم: وهيبة القاسمي

تشكّل العادات و التقاليد جزءًا لا يتجزّأ من الهويّة لكل بلد تميّزه بشكل إيجابيّ عن باقي المناطق عبر التنوّع و الثراء الذين نلمسهما في خصوصيّات ذلك البلد. ومما يُؤسف له أنّ هذا المفهوم بقي مقتصرًا لدى العامّة على كلّ ما يتعلّق بأنواع الألبسة التي كان يرتديها أسلافنا و أصناف المأكولات التي كانوا يصنعونها، إضافة إلى مختلف الأدوات التي يستعملونها في المنزل أو الزراعة أو التنقّل.

الكثير من الرّوايات تحمل في طيّاتها نوعا من التّناقض بين وصف لصعوبة طرق العيش آنذاك و بين التحسّر على ما كان يتميّز به الأفراد من دماثة الأخلاق و طيب المعاملة و الكرم و الجود. و هو ما يفسّر ارتباط المفهوم العامّ للعادات والتّقاليد بالجانبين المادّي و الحسّي معًا.

يمكن القول بأنّ الحديث عن عاداتنا و تقاليدنا هو في حقيقة الأمر انعكاس لصورة المجتمع في الماضي البعيد، بكل ما تحتويه من محاكاة للواقع آنذاك. و رغم صعوبة العيش و العمل اليدويّ المضني، ومظاهر الفقر لدى الأغلبية إلاّ أنّنا نجد الكثير من الأفراد في وقتنا الحاضر يتمنّون لو أنهم عاشوا في تلك الأزمنة حيث البساطة التي تميّز نمط العيش، و خاصّة التعامل بين الأفراد. وعلى الرغم من سهولة العيش في وقتنا الحاضر إلّا أنّنا افتقدنا العديد من القيم و المعاملات والأخلاق التي كانت تنبع من أسس عاداتنا الأصيلة.

لم تمنع صعوبة العيش في الماضي البعيد أجدادنا من الاهتمام بالعديد من القيم ومن أهمّها قيمة العمل. كانوا يتقنون أيّ عمل يقومون به رغم المشقّة. ورغم كثرة أعمالهم اليدويّة كانوا يستثمرون الوقت بشكل يسمح لهم بإتمام أعمالهم على أتمّ وجه و الاهتمام بشؤونهم الأسريّة، وكذلك الاهتمام بتمتين علاقاتهم فيما بينهم سواء بين الأقرباء أو الجيران أو الأفراد ذوي الصلة من الأماكن المجاورة.

كان النّاس يسألون عن أحوال بعضهم البعض عادة، و يعتبرون ذلك من الواجبات. كانوا يسعون إلى تفقّد أحوال الأفراد خاصّة المريض و المحتاج، وذلك رغم صعوبة التواصل و بعد المسافات، ناهيك عن مظاهر الكرم و خاصّة إكرام الضّيف أيّ كان ووقتما كانت زيارته. وهو ما أصبحنا نفتقده بشكل كبير في زماننا الحاضر رغم تقارب المسافات وسهولة العيش و كثرة وسائل التواصل الاجتماعي.

إن الاهتمام بعاداتنا و تقاليدنا من شأنه أوّلا: أن يساهم في تجذير هويتّنا وعدم القطع مع الماضي و مع الموروث الثقافي الذي حافظ عليه أجدادنا وشكل صورة مميّزة لكلّ منطقة أو جهة في بلادنا، وثانيًا الإعلاء من شأن العديد من القيم التي كانت تميّز مجتمعنا و الحفاظ على المبادئ التي كانت تجمع أفراد المجتمع وتوطد الصلة بينهم.

 

العادات والتّقاليد بغارالدّماء: "الڨائمة" نموذجًا


بقلممنجية الفزعي

لقد وضّح ابن خلدون الارتباطَ الوثيقَ بين فنّ التّاريخ وعلم العمران. فالوظيفة الأساسيّة لهذا العلم في المشروع الخلدونيّ هي تزويد المؤرّخ بالمعرفة الصّحيحة بأحوال العمران حتّى يمكنه أن يؤرّخ لحياة النّاس من قوانين ونواميس، لأنّ "الإنسان مدنيّ بالطّبع "على حدّ تعبير ابن خلدون، أي لابدّ له من الاجتماع الذي هو المدنيّة، وهو يعني العمران، وعليه تنشأ العوائد التي تَستعملها بعض المجموعات بأساليب وكيفيّات مُختلفة أو متّفق عليها.

وقد تجمع العَوائد مجموع الأوامر الشّرعيّة من فرض وسنّة ومن مباحٍ ومحرّمٍ ومن مذمومٍ ومحمود، وفي هذا الإطار سنُحاول تسليط الضّوء على بعض العادات بغارالدّماء، وإن كان بعضها قد اِندثر وطواه النّسيان سعيًا منّا للحِفاظ على الذّاكرة المحلّية ولتعرِفه أجيالُنا القادمة.

من المعلوم أنّ منطقة غارالدّماء كانَت ولازالت منطقة فلاحيّةً بالأساس، تعتمد على الزّراعات الكُبرى كضرورة للعيش التي لا تستقيم الحياة بدُونها، وجرت العادة في رُبوعنا أنّ الفلاح يلزمه أرضٌ ذات بئر أو عين ماء، أو وادي لأهميّة الماء في حياة الإنسان بصفةٍ عامّة، والفلاّح بصفةٍ خاصّة لقوله تعالى "وَجَعلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيءٍ حيّ" (سورة الأنبياء، الآية 30). فلولا الماء لما كَان على وجهِ البسيطة حياةٌ، فما بالك إذا قلّ هذا العطاء الرّبّاني الذي ينزل من السّماء؟

من عَاداتنا في غارالدّماء إذا قلّت الأمطارُ وشحّت الآبار أن يخرُج الأهالي في موكبٍ احتفاليّ منهم نساء منفردات عن الرّجال، ومعهم الأطفال، ولا يَخفى علينا ما تحمله فئة الأطفال من بَراءة ، تتقدمهم اِمرأة مسنّة تحمل "الڨَايمة" للاستغاثة، وهي عبارة عن تِمثالٍ من الخشب يُلبسونها زيّا نسائيّا، ويجُوبون بها الدّواوير (جمع دوّار) ويطُوفون بها كلّ البُيوت والأزقّة مُنشدين بأعلى أصواتهم:

ڨايمة يَا ڨايمة إن شاء الله تُصبح عَايمة،

ڨَائمة يا دلّولَة إن شاء الله تُصبح مَبلولة.

وكانُوا يأخذون من كلّ بيتٍ قليلاً من الدّقيق والزّيت والملح. وجرت العادة أن يبتهلُوا إلى الله بالدّعاء، وهذا الأمر لا أصلَ له في الشّريعة، ولكنّهم يُمارسون ذلك لاعتقادهم أنّ الله سَيستجيب لدعائم وسيُنزل الغيث النّافع. وفي الأخير يستقرّون عند أحدِ الأولياء الصّالحين لطبخِ "العَصِيدة" التّقليدية البَيضاء والتي لا تتطلّب موادّ بَاهضة، بل هي خليط من ماء ودقيقٍ وملحٍ وحَصيلة ما جمعوه في ذلك اليوم، وتُوضع في قدرٍ واحدٍ ويَأكل الجميعُ ويتقاسمون الماء والملح، وتغيب حينها الفوارق الاجتماعيّة.

                ولعلّه من غريب الصّدف ومشيئة الأقدار أن ينزل الغَيث النّافع أحيانًا في ذلك اليوم أو اليوم الموالي فيعتقدون أنّه استجابة لدعائهم فتتوسّع بذلك تلك المُعتقدات وتترسّخ في الذّاكرة الشعبية المحلّية أكثر.

وتكمن طرافة هذا المثال ليس في اِلتقاء أهالي المنطقة بسبب ضغوطات طبيعيّة كالجَفاف والقَحط فقط بل في التشبّث بممارسة الطّقوس نفسها لصيانةِ العَادات والتّقاليد والمحافظة عليها. هذه العادات لها مظاهر اجتماعيّة تتخطّى حُدود السّكن والتّجاور لتتجاوز الاختلافات باسم الانتماء إلى المنطقة نفسها في ظلّ مَصلحة واحدة مُشتركة، فتذوب حينها الفَوارق الاجتماعية وتدعم اللّحمة بين أبناء غارالدّماء. فماذا تبقّى لنا اليوم من هذه العَادات والتّقاليد؟

.


من مظاهر التّضامن بأرياف غارالدّماء


بقلمياسين البوزازي

من أهمّ ما يميّز الرّيف بغارالدّماء في التّسعينات والفترة السّابقة لذلك هو التّضامن والتّآزر، إضافة إلى العَديد من القيم الّتي أصبحنا نفتقدُها للأسف في مجتمعنا اليوم، ففي المجال الفلاحي عندما يكُون أحد الجِيران له العديد من حقول القمح والشّعير وأفراد عائلته غَير قادرين على جمعه يدويًّا بواسطة "المِنجل" و"المحشّة" وتطول عليهم مدّة جَمعه إلى حدود شهر أوت فإنّ سُكّان القرية يتنادون فيم بينهم ويقرّرون مدّ يد العون له، فيتجمع مجموعة من النّسوة وتجلب كل واحدةٍ منهنّ أداتها للحصاد.

وينطلق كلّ النّسوة نحو الحقل باكرًا، وتُسمى هذه الهبّة "المعونة". فهنّ يتعاونّ على جمع القمح والشّعير وسط جوّ من الزغاريد والغِناء، فتراهنّ يجمعن السّنابل في شكل مجموعةٍ تسمّى "الغُمر"، ثمّ يجمعنها بعد ذلك في شكل مجموعة أخرى أكبر تُسمّى "الحِلّة". وتتعالى أصوات الزّغاريد والغناء الشّعبيّ من تراث الشّمال الغربيّ من مثل أغنية "هزّي حرامك" والعديد غيرها من الأغاني الأخرى في ما يشبه حملات التّشجيع فيزيد النّسوة نشاطًا في الحَصاد وتبرز كلّ امرأةٍ سرعتها حتّى يعرف نساء القرية، خاصّة المتقدّمات في السنّ حرائر القرية، ثم يتناولن مع بعضهن البعض الطّعام من خبز وحليب وغلال، وكلّ امرأة وما جلبته معها.

ثمّ يُجمع الحصاد في مكان يسمّى "الطّرحة' ليُدرس، بعد ذلك يكون موسم الحصاد قد انتهى فيرجع صاحب الحقل إلى منزله مردّدًا في الطّريق: رابح رابح، سعد مسعود، سعد مسعود".  وهذا يعني أنّ الموسم الزّراعي ناجح، ويدعو الله أن يكون الموسم القادم ناجحا مثله.

أمّا إذا كان أحد الجيران يقيم حفل زفاف أو حفل ختان فإنّ كلّ واحد من الجيران يقدّم ما يقدر عليه من المساعدة، فهناك من يقوم بطهي الطّعام اللاّزم في منزله ثم يجلبه إلى بيت صاحب الاحتفال، وهناك من يقدّم الخِرفان وهناك من يقدم مبلغًا من المال وغير ذلك.

هذه بعض مظاهر التّآزر والتّضامن في ريفنا والتي تجعل العيش في الرّيف يتميز بالتّرابط بين أفراد المجتمع والتّعاون في السّراء والضراء، في أوقات السّعادة ومناسبات الحزن، لذلك يسود الاحترام بين النّاس، ويسود شعور بالطمأنينة بين الجيران وكأنّ القرية عائلة واحدة. هذا إضافة إلى دور المرأة الرّيفية في بناء العائلة وما تقوم به من أشغال داخل البيت وخارجه، ومساهمتها إلى جانب زوجها في توفير الرّزق للعائلة.


تم عمل هذا الموقع بواسطة