في المقـــــــهــى
تعريب: نورالدّين خروف
كان الوقت متأخّرًا، كنت أتساءل عمّا إذا كان يتعيّن عليّ البقاء في هذه المقهى الصّاخبة المعتّمة أو مغادرتها. وفي وحدتي أمام إحدى الطاولات، رحت أنظر حولي إلى النّاس وهم يثرثرون ويدخنون بدون انقطاع. وفي أعماق جوّ مظلم، كان اللاّعبون يفرقعون أحجار الدّومينو على غرار فرقعات السّوط، وهو الأمر الذي يثير الأعصاب بمرور الوقت.
كانت الجدران مغلّفةً بخيوط من القذارة، وإلى الجهة العليا منها كان الطّلاء الأصفر الغامق يزداد اتساخًا إلى أن يبلغ السّقف المسود بالسّخام، وعلى طول الجدران تمتد دكك من الخشب عريضة، تتّسع لعشرة أشخاص، بينما كانت كراسي عتيقة من التّبن مغبرّة، تنجر وسط القاعة. وكان الضّباب من الدّخان القاتم يتكدّس حول هذا كله، ثمّ يتمدد ببطء تحت نور المصابيح الأبيض ليذوب في شكل بخار منصهر شاحب.
نظرت صوب الباب،في حين راح ثقل غريب يقيّدني إلى مقعدي وراء الزّجاج، كانت السّماء ثقيلة كئيبة. وفي عويل أصم، متواصل، طفقت الرّيح تهزّ الأشجار الكبيرة في ساحة القرية، وتجعلها منغمرة في العتمة. ولم أشعر بعدها بالقوّة على الذّهاب. انغرزت في مكاني،حينئذ كانت عذوبة خفيّة زاحفة، وريبة حادة تلفّان قلبي، وتابعت تفكيري في اللّيل المخادع الممطر الذي يخنق القرية. لقد كان لي ملجأ على الأقل في هذا المقهى، بين كتلة النّاس الغارقين في الدّخان، الصّاخبين، واستطعت أن أتذوق ذلك الإحساس الغامر بالرّاحة.
لم يكن بالمقهى إلا مساكين تعساء،أو على الأصح خليط من أناس بلا مأوى وفلاحون اجتثوا من أراضيهم فهجروا الأرياف وسحناتهم ذوات الخطوط القاسية الملفوفة الغائرة. كلّ منهم يتنفس هواء البؤس، وكلّ واحد من هذه المخلوقات ينسحب في الداخل مثل أيّ كرسي من هذه الكراسي العرجاء. ويستثنى من ذلك كلّه رجل ربعة،غارق في جلابية من الصّوف الأبيض،أنيق، نظيف. بدا وجودُه في غير محلّه وسط هذا الحطام الذي تختلط فيه الأثواب البالية والشّواشي المبقعة، والبرانيس والمعاطف المهترئة.
تركت الزّمن يتصرّم على غرار أغلبية الموجودين في المقهى،على أنني كنت أدري أن أطفالي ينتظرونني وأن زوجتي تنتظرني هي كذلك، ما الذي كان علي أن أقوم به؟ فأنا لم أقدم لهم ما يطعمونه منذ عدّة أيام، ولم يدخل جيبي دينار واحد، لذلك آثرت البقاء في المقهى.
كان المطر ينهمر، واللّيل قد خيم منذ وقت طويل. وكانت الرّيح تهبّ في شكل زوبعات لاذعة البرودة، فتكدست في مكاني،متوانيًا،محاولا نسيان كل شيء، اللّهم إلا ذلك الدّفء الوثير الذي سكن جسدي. تكوّمت حول نفسي لكي تحتفظ بالدّفء، بينما راحت الحياة الصّاخبة تغلي حولي في المقهى. وانتظرت صابرًا، أجل انتظرت بدوري أن يستبد العياء بأطفالي، فيغلقوا عيونهم، تلك العيون التي ترسم علامة استفهام بكماء رهيبة، هي نفس العلامة دائمًا كلّما رأوني أعود إلى الدّار.
انتظرت أن يخرب النّعاس أعضاءهم الهزيلة، ويلقي بعد لأي بمسحة من الرّاحة على وجوههم الشّاحبة الصّغيرة التي تبدو وكأنها مغطاة بالرّماد. وانتظرت أن تنام زوجتي بعد أن تستسلم من السّهر، وظللت انتظر. اللّيل حالك السّواد في الخارج، والرّطوبة نفاذة باردة. أما زمجرة الرّيح فتصمّ الآذان، وبين الفينة والأخرى تنهمر الأمطار بعنف ويتضاعف وقعها على أكواخ القرية، وقد تساندت فيما بينها، في حين أنّ قلبي ينقبض لذلك الإحساس بالفتور المنعش الذي استشعره في المقهى، وقد غرقت قدماي في الدّفء...ومع ذلك فإنّ النّار المستعرة في أعماقي أصرّت على أن تخبو قليلا قليلاً . وحملقت في العتمة عبر الزّجاج الذي صار معتّما بفعل الضّباب. وفجأة استبدت بي القشعريرة:
هاهي ذي ثلاث سنوات بأكملها تمرّ، والحالة هي هي. منذ ثلاث سنوات وأنا أعيش خائفًا من العودة إلى بيتي.
ونظرت رأسًا صوب العتمات، وفي هذه اللّحظة بالذّات خُيّل إليّ أن وجها بشعًا يصوّب نحوي ضحكة ملغزة باردة.
خشخشة القطرات الخفيفة العنيدة تثير في نفسي أفكارًا محزنة. ولعلّه راق لخيالي المتوثب أن يعرض أمام عيني صوره البشعة وأشكاله الغريبة. وأحيانا كان الأمر، فبينما المطر يطقطق على سطوح الأكواخ، والريح تعزف على وتر الكآبة والأنين، وتتواتر هيأتها في رتابة ويأس، شعرت بشيء باعث على السّأم إلى حدّ القرف يجتاح نفسي. شيء يثير رغبتي في الفرار والانطلاق على غير هدًى. فكان أن سمّرت عينيّ في الباب، مجيلا في رأسي أفكارًا بالغة السّوداوية. وظللت متأرجحًا بين رغبتي في مغادرة المقهى وبين الحاجة الطّاغية إلى تمديد هذه الاستراحة لبعض اللّحظات.
حينها اندلق شخصٌ داخل المقهى، دافعًا أحد المصراعين بوهن كأنّما خانته قواه. يا إلهي!... أيمكن لرجل واه مثله أن يدخل المقهى على أطراف قدميه ! ما إن جاوز الباب حتى تجمّد في مكانه. ألقى نظرات عميقةً ذاهلةً على القاعة والنّاس والجدران، فاضطربت أيّما اضطراب لما تمثله من تعبير. ولعله شعر فجأة بالسّكينة في جوّ المقهى الدافئ، ذلك أن كتفيه المرفوعتين إلى أذنيه نزلتا شيئا فشيئًا. هذا الرّجل جسيم، واسع الصّدر، يبدو عليه أنّه ناهز الأربعين بل جاوزها. لكن، كيف يمكن له أن يتوفر على مثله هذه اللّحية الرّمادية؟ لولا بذلته الأوروبية، لحسبته بلحيته هذه واحدًا من أتباع فرقة الدّرقاوة، على أنّ وجهه جميل نحيف، ينطوي على النّبل والعذوبة مع بعض الصّرامة، بل والحزن، وهذا ما نجده كثيرًا لدى الفلاّحين الذين يعيشون في أرباض القرية.
طرفت عيناه قليلاً، وقد وخزهما الدّخان والضّوء القاطع المنبعث من المصابيح الكهربائيّة العارية المتدلّية من خيوطها مثل إجّاصات. سحابات رمادية تطوف في كلّ جانب من جوانب القاعة الصّفيقة، وصخب أصوات مبهمة تقطعُها صيحات ونداءات وكلمات لا وضوح فيها، وضحكات تتصاعد بغير انقطاع في نوع من الهستيريا العارمة.
التّعبير الذي يرتسم على وجه هذا الرّجل لا يقلّ غرابةً عن ذلك الذي يرتسم في نظراته، لكأنه قدم من بلد بعيد، ومن ثم فهو لا يعرف لغة النّاس المحيطين به ولا عاداتهم. ولهذا السّبب فهو يكتفي بالتّحديق في النّاس والأشياء دون أمل في التّواصل معهم. قلت في نفسي :
كيفما كان الأمر فإنّ صاحبنا هذا ولا شك مسكين تعس،جاء يتسوّل على الرّغم من الوقت المتأخر، وهو لا يتجرّأ على مدّ يده لأنه يفتقر إلى مثل هذه العادة. ولعلّه يريد أيضا أن ينتهز فرصة التأثير اللّذيذ الذي يحدثه الدّفء قبل أن يعود إلى العتمة التي لا ترحم.
وبينما كنت غارقا في تفكيري هذا، لاحظت أنه ينطوي على ملامح متسول أو مشرّد؛ بذلته الكستنائية ليست جديدة، لكنّها لا تزال جديدة، وأعترف أنّها تبدو أحسن من بذلتي، والحذاء الذي ينتعله يبدو هو الآخر في حالة جيّدة. وعندما زايله الفتور تقدم نحو الطاولات وألقى نظرته الفضوليّة عليّ ثم اقترب منّي في مشية حذرة. وعندما بلغ طاولتي انحنى وهو يدفع بكلّ تلطّف مقعدًا صغيرًا، وجلس دون أن يأتي أيّة حركة أخرى. وقال على سبيل التحيّة: كان الله في عونك! صوته عاديّ، لكنّ به نوعًا من الغشاوة تجعله يصدر رنة صمّاء.
وضع أحد مرفقيه على الطّاولة متحاشيًا البقع السّوداء المنتشرة عليها هنا وهناك، فترنحت الطّاولة الخشبية تحت ثقله. ثم سحب مرفقه، ووضع كلتا يديه على ركبتيه معدّلا جذعه. وظلّت نظراته مسمّرة عليّ طوال ذلك كله. ولمّا اقترب أكثر من ذي قبل، لاحظت أنّ بعينيه الشّهلاوين تحت الحاجبين الكثيفين شيئًا هو أقرب إلى الصّورة الحالمة. عيناه مفتوحتان على سعتهما، لذلك حين تأمّلتهما، وهما قريبتان منّي فقدتا ذلك الانطباع الباعث على الأسى. وظلّ جليسي صامتًا وقتًا طويلاً. وما أسرع ما نسيت حضوره ذاك، فغرقت ثانية في أفكاري.
عاودتني صورة أطفالي النّائمين بوجوههم الصّغيرة الشّاحبة المدبّبة وقد فقدوا كلّ أملٍ في أن يروني بينهم. ثمّ سعل الرّجل سعالاً معيّنا، فأدركت منه أنه يريد أن يكلمني . قال لي بصوته المختنق:
لقد خرجت من السّجن يا أخي...
قوله هذا أضاء أمامي كلّ شيء. كيف، يا تراني لم أفهم ذلك من قبل؟ كلّ شيء فيه يفصح عن ذلك، حركته المنزلقة الخَرساء، مشيته المتراخية،عيناه اللّتان يبدو عليهما أنّهما تبتلعان أي شيء، صوته الرّصين الخافت...كلّ ذلك يُفصح غاية الإفصاح عن أنّ هذا الرّجل قضى وقتًا طويلاً، وربّما أعوامًا في عتمة جدران السّجن الثّقيلة . كيف عجزت عن تبيّن ذلك من قبل؟ وراودتني حينها فكرة محيرة أقلقت بالي. لقد اقترب هذا الرّجل مني واثقًا، وفي نيّته أن يطلب العون منّي، ولو النّزر اليسير . وهل كان لي في أعماق جيبي إلا بعض فرنكات أعتمد عليها لدفع ثمن الشّاي الذي احتسيه منذ ساعات طويلةٍ؟ حتّى الفنجان اِختفى هو الآخر من الطّاولة. أخذه النّادل لأنه يعرف زبائنه، ويرى أنّه من غير الضّروري أن يترك الفناجين أمامهم إلى أن يدفعوا له ثمن ما احتسوه.
نظرت إلى صاحبي هذا، مدركًا في قرارة نفسي أنّني لن أقوى على مدّ يد المساعدة له. وتأهبت لكي أدير له ظهري، أن أبدي له عداوتي بطريقةٍ تجعله يحجم عن أيّ رغبة في دفع عجلة الحَديث معي إلى الأمام، لكنّني شعرت بالخجل من نفسي، فأرسلت إليه نظرات مشجّعةً، وأوشكت على أن أستفسر منه عن السّبب الذي قاده إلى السّجن، لكنّني تمالكت نفسي آخر لحظة.
ودون سابق إنذار ،أو علم منّي، عاودتني ذكرى باريس يوم أن قصدتها منذ زمن بعيد، تحدوني الأوهام وقد وقع في ظني، كغيري من أبناء بلدي أنّني سوف أجد عملاً بكل يسر وسهولة. حللت بها إذن، ولحسن حظي كنت قد اتخذت حذري، فحملت معي ما وفرته من مال، والحق أنه كان مبلغًا لا بأس به يمكنني من العيش بلا همّ ولا غم طيلة شهرين على الأقل في تلك المدينة التي لا أعرفها.
وذات يوم وأنا أمر بزقاق من الأزقة، ابتدرني فرنسي قصير القامة بدين، ذو رأس بيضويّ الشّكل، مكلّل بشعر صوفي أحمر، بالغ التّجعد- حتى يخيّل للنّاظر إليه أنّ شعره هذا قد شوته النّار لتوّه فعرض علي تذكرتين صفراوين من تذاكر المترو، وما أسرع ما لفتت ملامح عينيه انتباهي. لقد كانت شبيهةً كل الشّبه بالملامح المرتسمة في عيني الرّجل الجَالس أمامي في المقهى، وقال لي:
ألا تريد أن تبتاع منّي هاتين التّذكرتين؟ أنا خارج لتوّي من السّجن، وليس لديّ مال...
ودون أن أقول شيئًا، تناولت النّقود من جيب سترتي الأيمن حيث أضع في العادة بعض الأوراق المالية الصّغيرة، والقطع النقدية الأخرى اللاّزمة لمصروفاتي اليومية، ووضعت النّقود في يده، وقبلت بكلّ غباء تذكرتيْ المترو. لكنّني ما إن تداركت نفسي وحاولت استدعاءه لإرجاع التّذكرتين إليه حتى كان قد غاب. لقد تصرّم وقت طويل منذ ذلك العهد، ورأيتني ثانيةً في الجزائر بلا عمل أيضًا ..لنقفز فوق هذه الأمور كلها...
وقبالة جليسي هذا، إذا ما كنت أنطوي على رمز ما يكشفني للنّاس من أمثاله، ويجذبهم إلي. سألته:
كم أمضيت من الوقت في السّجن؟
فأجابني بنبرة هادئة.
خمس سنوات...
أعترفُ أن خاطرة غريبة عبرت ذهني في تلك اللّحظة: "هاهي ذي ثلاث سنوات وأنا أجدّ في البحث عن عملٍ في حين أنّ صاحبي هذا لم يعرف في حقيقة الأمر،أيّة صعوبة طوال خمس سنوات". وشعرت لحظتها بضرورة معرفة كيف آل به الحال إلى مثل ذلك الوضع.
لاحظت أنّ شعورًا من التّعاطف مع هذا الرّجل امتزج مع فضولي ذاك. ما شعرت بالخشية من الإنسان فقطّ،أيّا كان هذا الإنسان، وعلى العُموم، حتّى المجرم ليس بالإنسان الضّائع إلى الأبد. إنّ ما ينبغي الخشية منه على وجه التّحديد حيال أمثال هؤلاء النّاس الذين يعتبرون حثالة المجتمع هو إيقاع عقاب شديدٍ بهم قد يطفئ الشّرارة الإنسانية بين جوانبهم، ويقتل في قلوبهم الدّوافع النبيلة ويُحيلهم إلى حيوانات ضارية. لكنّني إزاء هذا الغريب شعرت بشيء مختلف كلّ الاختلاف، شيء يثير الفضول والاستغراب. ألقيت عليه نظراتي فأغمض عينيه. هو جميل الطّلعة حقّا، ولحيته الرّمادية المجعّدة عند أطرافها موزّعة بالتّساوي حول وجهه، وهي توائمه كلّ المواءمة، وتضفي عليه طابعًا روحانيّا لا يمكن التّعبير عنه.
عندما فتح عينيه بعد لحظات ألقى عليّ نظرة عذبة شفوقة، فاضطربت، وأفسح فضولي المجال لانطباع جديد كل الجدّة،باعث على القلق. وكان أن نبست بأولى الكلمات التي برزت في رأسي رغبة منّي في قول أي شيء وفي طرد الاضطراب الذي استبدّ بي على الأخص.
اُعذرني، وددت لو أقدّم لك شايًا، لكنّني لا أملك نقودًا، اللّهم إلا هذه لكي أدفع بها ثمن الشّاي الذي احتسيته...
أريته الفرنكات في باطن يدي، وقد امتزجت ببعض النّثار، وبفتات خبز رمادي وبقشّ التّبغ بعد أن أنفضتها كلّها من أعماق جيبي. فرفع حاجبيه وقد ارتسمت عليه الدّهشة :
- ما هذا الذي تقوله يا صاحبي؟ لن تدفع فرنكا واحدًا ،أنا الذي سأدفع .أعذرني إن أنا لم أعرض عليك شيئًا، فما ظننت أنّك تريد تناول مشروب ما...
كدت أقول له إنّ الأمر لا يتعلّق بي أنا، لكنّه كان قد نادى النّادل. وعندما طلب منه أن يأتينا بإبريق شاي، بدا الاندهاشُ على النّادل حيال هذا الطّلب المفاجئ، وأوشك أن يقول: ماذا؟ ثمّ إنّه تردّد، وانطلق دون أن ينبس بكلمةٍ... قال جليسي:
ههه! ولم لا ؟المناسبة أهل لذلك،ألست معي؟ المرء لا يخرج من السّجن في كلّ يوم...
وأخلد إلى الصّمت، ولم يضف كلمةً إلى أن وُضع إبريق الشّاي فيما بيننا، حينها واصل حديثه:
لقد كسبتُ المال في السّجن، كانوا يشغّلوننا، وقد سلّموني مستحقّاتي كلّها عند خروجي ..
أمسك بالإبريق وراح يملأ الكأس:
أنا لا أعرف أحدًا هنا، أرجوك أن تعذرني...
وعلى الرّغم من حديثه هذا، فقد تبين لي أنّه ليس بالإنسان الذي يصرف وقته في الثّرثرة ، جمله مقتضبة، وليست واضحة على الدّوام. وجهت له لحظتها كلمات ما ظننت قطّ أنّني أقوى على قولها لإنسان لا أعرفه.
وجهك صبوحٌ..
ولم أتمالك نفسي بأن استطردت:
إنّك لا تشبه ... مجرمًا ..
قابَلني بمظهر حازمٍ، وتربّع فوق دكّته، وضغط بيديه على ركبتيه، وانطلق حديثه دفعة واحدة:
- أتظنّ أنّني قاتل ..يا أخي؟ وأنّني حيوان متوحّش ؟ أنا غير ما تظنّه...
تحدث وقتًا طويلاً وهو يغمض عينيه بين الفينة والأخرى دون انقطاعٍ. حديثه متّئد، وصوته جليّ وإن كان خفيضًا، وشفتاه ، وهما تتحرّكان تكشفان عن أطرافها الواضحة. وددت أن أذكر الآن كلماته كلّها. كانت تنطوي على نبرات غريبة. ونظراته هي الأخرى ذات تعبير خاصّ تعكس شفقته حتّى أنّها باتت تثقل عليّ. طفق يتحدث بهدوء لا يكاد إنسان يتحدّث بمثله عن نفسه. وشعرت منذ تلك اللّحظة أنّني أفقد ثباتي ويقيني. جميع الأفكار التي خيّل إليّ أنّها سند قوي غادرتني. وهذا الرّجل الذي كنت أجهل وجوده قبل نصف ساعة استطاع بكلماته ونظراته أن يقلب رأسًا على عقب معالم الحياة التي تعوّدت عليها، ويكشف عن كذب النّاس وزيفهم. أجل كذب النّاس وزيفهم، وأنا أجرؤ على قول ذلك الآن، وعن ذلك الارتياح المنافق الذي يغلف الحياة ويلفّها. وأنا الذي ما تلقّى حتى ذلك الحين إلا الخيبة إثر الخيبة.
وجدتني أتكيّف مع كل شيء في قرارة نفسي وأتقبّله. لكن لم ذلك يا ترى؟ لأنني تخيّلت أنّ كلّ شيءٍ سيعود إلى نصابه، ومن ثم فإنّه يكفيني أن أتذرع بالصّبر . وجعلت أعزي نفسي قائلا : "لو استطعتُ أن انتهز الفرصة مرّة واحدة لأريتهم ما أقوى على الاضطلاع به"، لكنّ الإحساس بالطّمأنينة الكاذبة خدَعني عن نفسي أثناء ذلك، فجعلت أتقهقر كلّ يوم وأزداد انزلاقًا نحو الهاوية.
لم أكشف شيئًا عن اضطراب أمري لجليسي، وإن كان قد لمس شيئًا منه. ها هي ذي الحكاية التي رواها لي. ما كان يريد القتل بل السّرقة، وهي المرّة الأولى التي يسرق فيها. وحسب ما استطعت أن أفهمه منه فإنّ عمله ذلك أملاه عليه الجُوع والبطالة والسّأم الرّهيب المستبدّ به. هذه الأمور كلّها جعلت تأكل صدره في آن واحد. وحدث ذلك في الظّروف التالية:
ذات مساء وهو يهيم على وجهه دون عمل،اِعترضت طريقه عربة تحمل من محطة القطار علبًا كبيرةً من الورق المقوى. انزلق وراء العربة، وشقّ بكلّ يسر علبة بسكينة. كان السّائق يسير في المقدمة إلى جانب حصانه دون أن يدري بما يحدث وراء ظهره. قال لي ملاحظًا: لم أكن أعلم ما سأجده داخل تلك العُلبة، لكنّها كانت تحتوي على البسكويت لطبقة معينة من أهل المدينة. قلت في نفسي حينها: ينبغِي عليّ أن آخذ نصيبي. اغترف البسكويت بكلتا يديه وملأ به جيوبه ودسّ بعضًا منه داخل قميصه. ثم أبصره السّائق فألقى بنفسه عليه، لكنّ جليسي هذا ضربه بجمع يده على صدغه فهوى أرضًا. تأمّلته لكنّه بقي ممدّدًا عند قدمي ووجهه مصوّب نحوي، وعيناه جاحظتان وفمه فاغر . وفجأة أصابني الذّهول. اِنحنيت عليه، وأردت أن أرفع رأسه لكنّه كان ثقيلاً مثل قرمة الجزارة، ينزلق من يد إلى أخرى. وبقيت عيناه محتفظتين بتعابير الغَضب، وما أسرع ما بدأت تلك التّعابير تتحول إلى صلابة باردة.
أحسست لحظتها أن يدي تتلطّخان بالدّم المنبعث من رأسه. وخلال ذلك، ابتعدت العربة منسحبةً وراء الحصان الأعمى. وانتصبت فجأة وانطلقت في الصّباح مثل مجنون: يا ناس ،لقد قتلت شخصًا ..لقد قتلت... وتصرّم وقت قصير بين حدوث المأساة المداهمة الخاطفة واللّحظة التي اقتيد فيها إلى مركز الشّرطة، إلى السجن.
وبعد صمت قصير، استأذنني في أن يطلب شايًا. كنّا قد احتسينا إبريقين كاملين، وألحّ في طلبه.
لم لا؟ لديّ النّقود التي ربحتها في السّجن ..
وضرب جيب سترته ضرباتٍ خفيفةً بباطن يده محدثًا رنينًا في القطع النقدية.
لست على عجلة من أمرك. ليس لديك ما تفعله في مثل هذه السّاعة. إذن، إبق معي.
تأخّرت ذلك المساء أكثر من المعتاد. وخارج المقهى كان مطر معتم خشن مثل الحمص يتلاطم ويجعجع بعنادٍ.
محمد ديب (أكتوبر 1964)
محمد ديب، ولد في 21 يوليو1920م في تلمسان،وتوفي في 2 مايو2003م في فرنسا، هو كاتب وأديب جزائري،يكتب باللّغة الفرنسية في مجال الرّواية والقصة القصيرة و المسرح و الشّعر
الظـــلّ
بقلم: نجاة فقيري
نظر إلى الشّارع القديم المتهالك الحزين، تأمل هذه الحُفر القديمة الحديثة المليئة بالآهات، بالأفراح، بالأحزان، بالذّكريات، بكثير من الحنين. نظر إلى صديق كان يتأبّطه ويتأبطان أحلامًا جميلةً، إلى العمّ سالم يجلس أمام دكانه الصّغير يراقب الشّارع بانتباه مقتنصًا كلّ مارّ و كل زبون، يحدثه كثيرًا كثيرًا، وعيونه لا تغفل عن مراقبتنا.
بحث عن دكّانه فلم يجده، لقد حلّت محلّه مغازة صغيرةٌ مبهرجةٌ، فجأة اصطدمت عجلات سيّارته بشيء ما. أيقن حينها أن الولُوج إلى الحيّ بالسّيارة صعبٌ، ترجّل عن سيّارته وتقدّم بين الحفرِ يبحث عن المقهى القَديم. وقف أمام البناية القرميديّة القديمةِ التي طالما كانت قديمةً موصدة الأبواب، ما تزال أبوابها موصدةً رغم تهاوي قرميدها وتكدّس الفضلات في ساحتها. كم كان يحلو لهم التّسلل إليها والتّحدّث عن أشباحها، لقد أصبحت البناية شبحًا حزينًا.
ارتعشت قدماه عند البَاب الحديديّ الأزرق ولفحته رائحة شجرة اللّيمون، دمعت عيناه ورقص قلبه وتسارعت دقّات قلبه شوقًا لهذا المكان، منزله القديم. تقدّم نحو الباب تحسّسه بيديه:
لقد كبرت يا باب كما كبرت.
ردّدها في نفسه بحرقةٍ، تطلّع إلى الحديقة المهملة، بحث عن زهور أمّه فلم يجدها، فقط الكرسيّ الرّخامي مازال يتربّع في ركنها وقد ظهرت عليه علامات الكِبر وشوّهت زخارفه الجميلة وشجرة اللّيمون الصغيرة باتت كبيرةً تضلّل الكرسيّ.
فتحت امرأة باب المنزل و رمقته بنظرةٍ متعجّبةٍ متسائلة، ألقى عليها السّلام ومضى والدّمع يتسلّل من تحت نظاراته الشّمسيّة. وصل المقهى المنتصب على ناصية الشّارع. لقد اكتسى حلّة جديدةً من الخارج، لكنّه لا يستطيع نسيانه فهو أحبّ الأماكن التي يتسلّل إليها مع رفاقه بعد البيت القرميديّ. كان يتمنّى أن يكبر ويجلس على عتبته حيث يجلس والده يتسامر مع رفاقه في أوقات فراغه. كانت من أجمل الجلسات التي يستمتع بالتنصت عليها ورؤية ابتسامة صادقةٍ وصداقةٍ صادقةٍ، قبل أن ينهره والده و يأمره بالانصراف.
ولج المقهى فتسمّرت كلّ العُيون عليه، شابّ في منتصف عقده الثّالث، طويل القامة، حسن المنظر والهيئة،بنظاراته السّوداء و معطفه الطّويل، و ثيابه المرتّبة باهظة الثّمن. ظل واقفًا يرقب هذه الوجوه من تحت نظارته. لقد عرف الكثير منهم، من رفاقه وأبناء حيّه، وهذا العمّ صالح، صاحب المقهى و صديق أبيه، يتربّع على كرسيّه المعتاد ببشاشته المعتادة رغم كبر سنّه.
تقدّم نحوه ليسلّم عليه بحرارة ليحتضنه ليخبره أنه فلان ابن فلان، لكنّه بادره
قائلاً:
- تفضل يا سيدي.
ونادى:
سامي،سامي تعال، اصطحِب السّيد إلى مكان يليق به.
وعاد ينظر إليه. هو لم يعرفه وكذلك الجميع. هم فقط انبهرُوا بقالبه ولم يستطيعوا الولوج إلى قلبٍ يعرفهم جيّدًا. تقدّم نحو الطّاولة التي أشار إليها سامي ابن العم صالح، وهو مستغرب من عدم تعرّفهم عليه. لم ينبس ببنت شفةٍ، فقط نزع معطفه ونظارته وجلس وعيناه تراقبان المكان. بعض الطّاولات مازالت كما هي، والبعض الآخر تزيّن بالطّابع العصريّ، بحث في الوجوه عن صديق طفولته فلم يجده.
صمتٌ رهيبٌ يخيم على المكان بينما هذه الوجوه المتعجّبة تراقبه في حذر، كسر صوتُ التّلفاز الصّمتَ بأغانٍ لم يعهدها. كان صوت المذياع يصدح بالأخبار و الأغاني الجميلة الهادئة، في تلك الأيّام الرّائعة التي انطوت. شعر أنّ الكلّ مهموم شاردٌ، فقط بعض الوشوشات المتذمّرة تنطلق بين الحين والآخر. شعر أنّ الجميع مجرّد أشباح تنظر في صمتٍ وتتنهّد في صمتٍ.
فجأة ولج شابّ في مثل سنّه لكن الزّمن خطّ على جبهته بعض التّجاعيد، دخل يمشي بخطى متثاقلةٍ محني الرأس يحمل حزمةً أوراق وجريدة. حيّى العمّ صالح بحرارةٍ رغم نظرة الحزن التي تغزو وجهه. كان يترنّح و يهزّ رأسه أحيانًا، تهاوى على المقعد كالمنهك المثقل بهمومِ الأيام.
أخرج علبة السّجائر من جيبه وراح يدخّن السّيجارة تلو الأخرى. صاح العم صالح:
-رفقًا بحالك يا كَمال ،يا بنيّ ،ستفرج إن شاء الله.
عندها تسارعت دقّات قلب الغريب شوقًا و فرحًا بلقاء كمال صديق طفولته، طفل بشوشٌ منطلق بهيّ الطّلعة ،متفوّق مبدعٌ مندفعٌ حالمٌ صديقٌ، كان يرافقه أيام طفولته ،كانا يرسمان أحلامهما معًا، لقد كان لامعًا متميّزًا شفافًا مجتهدًا...
تساءل لماذا أصبح حاله هكذا؟
صرخت الكلمات داخله وما بلغت فاه. ردّ كمال متثاقلاً مبتسمًا ابتسامة حزينة:
-آه آه يا عمّ صالح ،عن أيّ رفق تتحدّث وقد اغتيل عمري ما بين الدّفاتر والسّجائر، ما نفع العمر يا عمّي وقد أطفأت شمعته شدّة العتمة. ثم غرس رأسه داخل الجريدة.
نادى الغريبُ سامي وسأله من هذا الشّاب، رمقه سامي بنظرةٍ حذرةٍ حائرةٍ ثمّ انفجر قائلاً:
ماذا تُريدون منه بعد؟ أما كفاكم تعذيبه وتشريده، وتضييع عمره بين جدران سجُونكُم، هو الدّكتور كمال،دكتور كيمياء،كاتبٌ وشاعرٌ مثقّف، قال لجوركم لا، فمات حيًّا وقهر والداه. ماذا تريد منه بعد أيّها الغريب،ماذا تريد أن تعرف ؟ كفى ثم كفى ثم كفى،كلنّا كمال الآن.
التفت الجميع إليه،لكنّ كمالاً مازال يحشر رأسه داخل الجريدة،أراد أن يصرخ أن يُخبره أنا فلان ابن فلان، أنا ابن حيّكم وصديقكُم القَديم،لكنّ كلماته اِختنقت بين دموعه المحبوسة بين جفنيه،حمل معطفه وخرج بسرعةٍ..ربّما سيعود غدًا...
المفاجـــأة
بقلم: هذباء علي الغويلي
قَرع الباب،وانتظر فلم يُؤذن له،فأعاد الكَرّة وانتظر حتّى سئم،فقرَر فتح الباب ودخل غرفة المُدير دون أن يُؤذن له، اِنزعج المدير الذي كان يُجري اتّصالاً هاتفيّا حميميا وأغلق السّماعة، وقطّب جبينه ثمّ نهض وعدّل حزام بَنطاله وتوجّه نحو الموظف. اقترب منه ووضع يديه على خصره وبدأ يلفّ حول الموظف وكأنّه يتعرّف عليه. ظلّ الموظّف ينظر إليه في دهشةٍ واستغرابٍ.
أهلاً، أهلاً يا... أبو طويلة، لقد اِنتظرناك بالأمسِ ولم تأتِ وجئت اليوم متأخّرًا، لا يهم فالموظّفون الجُدد تعترضهم مشاكل في أوّل أيام عملهم...
أبو طويلة ؟ّ!
ضحك المدير حتّى اِهتزّت بطنه أمامه فبلغت شظايا بُصاقه وجهَ أبي طويلة فمسحها وهو يُخفي اِمتعاضَه، واصل المدير كلامه:
بصراحةٍ يبدو أنّك كنت لاعب كرة سلّة بامتياز.
أطبق أبو طويلة على أسنانه من الغَضب، واَبتسم ابتسامة فاترةً وقال:
-أنا جئتُ من ...
لم يعر المدير أيّ اِهتمامٍ لكلامه، و أشار إليه بيده بالانصراف وهو يردّد:
- لا يهمّ من أين جئت ومن أنت، المهمّ أن تُسرع لتلتحق بعملك، فلديك عمل ستّة أشهر ينتظر في قسم الشّؤون الاجتماعية.
نظر إليه أبو طويلة نظرة من يبيّت في نفسه شيئًا، ثمّ هزّ رأسه واَنصرف.
خرج أبو طويلة من غرفة المدير يبحث عن قسم الشّؤون الاجتماعيّة فاعترضه الفَرّاش، سأله عن قسم الشّؤون الاجتماعية، قاده الفَرّاش وهو ينظر إليه يريد معرفة أسباب قُدومه إلى هذه المؤسّسة، قاوم الرّغبة في السّؤال، لكنّ فضوله أخرجه عن صمته.
سيّدي، هل أنت موظّف جديد أم زائر؟
سكت أبو طويلة برهةً ثمّ قال:
نعم أنا موظّف جديد.
أهلاً، أهلاً، خادمك أبو عطيّة، فَرّاش المؤسّسة، ويُنادونني "باسوُورْد"، يَعني أنا مفتاح كلّ شيء في هذه المؤسّسة، وإن احتجت أيّ شيءٍ ما عليك إلاّ أن تنادِيَني وسأحضر في الحال، فأنا هنا أقوم بكلّ شيءٍ؛ أجلب الشّاي، والقَهوة، والسّندوتشات، والجَرائد إن شئت بالطّبع. وأنا أيضا أقوم بدور السّبّاك والكهربائيّ، وأحمل الملفّات إلى المدير، وأنجز العديد من المهام الأخرى، وستعرفها في إبّانها إن احتجتني.
هذا جيّد يا بَاسوُورْد، أخبرني كيف يسير العمل في قسم الشّؤون الاجتماعية؟
قسم الشّؤون الاجتماعية من أحسن الأقسام في المؤسّسة وأروعه، به خمسة موظّفين؛ رمزي وطارق و عزيز ومنيرة وعائشة، تماما مثل العائلة الواحدة.
توقّف الفرّاش أمام باب قسم الشّؤون الاجتماعية.
لقد وصلنا، هذا هو قسم الشّؤون الاجتماعيّة.
فتح الفرّاش الباب دون أن يستأذن ودَلف إلى الغُرفة وكأنّه يَهجم على شيءٍ ما وهو يقول:
صباح السعادة والانبساط ، صباح العَسل، الموظّفُ الجديد وصل.
كان في الغرفة موظّفان فقط وهما رمزي و عزيز، كان أثر السّهر بادٍ عليهما.
ورغبة في النّوم تغالبهما. هزّ عزيز رأسه مرحّبًا ولوّح له رمزي بيده اليُمنى فانزعج أبو طويلة من اِستقبالِهم الخالي من أيّ معنى، ولاحظ الفرّاش ذلك فاقترب من عزيز و هو يقول:
يا جماعة رحّبُوا بزميلكم الجديد، الأستاذ ...، آه لقد نسيت أن أسأله عن اسمه
- ما الاسم الكريم ؟
تردّد أبو طويلة قليلاً ثمّ قال:
يمكنكم مناداتي بـ" أبو طويلة"
ابتسم رمزي وفوزي وقال الفرّاش:
عاشت الأسامي يا أبو طويلة. تفضّل اِجلس، هذا هو مكتبك، وبعد قليل سيأتي بقية الزّملاء.
همّ الفرّاش بالانصراف ثم التفت إلى "أبي طويلة" قائلاً:
تشرب شايًا أم قهوةً؟
قبل أن يجيب أبو طويلة استأنف الفرّاش حديثه:
لدينا بنٌّ مُستورد لا يُقدم إلا للغَاليين فقط، قهوتُك ستكون جاهزةً بعد خمس دقائق.
وبينما كان يهمّ بالخروج اصطدم بمنيرة فأوقع منها كيسًا كانت تحمله فتناثر ما في الكيس على الأرضيّة، فهوت تجمع ما تناثر منها وهي تتأفّف:
أُوف، أُوف، يوم أغبر من ساعاته الأولى.
آسف، آسف يا مدام منيرة اُعذريني.
انحنى الفَرّاش يجمع أدوات الزّينة والمكياج وبعض الأكسسوارات وهو يقول مبتسمًا:
لكنّ الأغبر لم تَريه بعد، فالمدير سأل عنك مرّتين ولم يَجدك.
وضعت منيرة أدواتها داخل الكيس وهي ممتعضة من سؤاله عنها.
وماذا يُريد حضرة المدير، لماذا يسأل عنّي؟
قال الفرّاش وهو يضع علبة صغيرة مزركشةً داخل الكِيس:
لا أعلم، ولكن طلب حضورَك فور وصولك إلى مكتبه.
خَرج الفرّاش فنهض رمزي وجلس على حافة الطّاولة:
- وكأنّك لا تعلمين لماذا يسأل عنك؟ بالطّبع يسأل عن الملفّات المفروض تسليمُها منذ ثلاثة أسابيع، وسيسألك عن سرّ تأخّرك الدّائم.
قالت مريم وهي تضع الكيس بجانب الطّاولة:
- لقد أضحكتني، أنت من يتحدّث عن التّأخير ؟ فإذا كنت أنا آتي متأخّرةً فأنت تنصرف في منتصف الدّوام وملفاتك جميعُها غير دقيقةٍ ومُراجَعة.
ثم أشارت بيدها إلى مكتب فارغ قائلةً:
- ولماذا لا يسأل عن عائشة أم أنّ حبيبة القلب، تأتي متى تشاء وتنصرف متى تشاء؟
نهض أحمد من مكانه وهو يضع يده على صدره:
- الحمد لله، جميع ملفّاتي دقيقة ومضبوطة.
ضحكت منيرة ضحكةً عاليةً أزعجت أبو طويلة ثمّ قالت:
الشّكر للفَرّاش الذي يقوم بمهامّك.
في هذه الأثناء دخل الفرّاش يحمل طبقًا عليه فنجان قهوة لأبي طويلة. سكت الجميع وخرجت منيرة. وضع الفرّاش القهوة على مكتب أبي طويلة وهو يهمس:
- لن يفعل شيئًا، فالمدير قلبه ضعيف أمام الجنس اللّطيف، بمجرّد أن يرى دمعها حتّى يطبطب على كتفيها ويطلب لها عصيرًا ويرجوها ألاّ تتأخر مرّة أخرى في تسليم مهامها.
نهض أبو طويلة وطلب من الفرّاش أن يأخذه ليتعرّف على بقيّة الأقسام، وفي طريقهما حدّثه الفرّاش عن نفسه ومؤهّلاته العلميّة ومهاراته، فعرف أبو طويلة أنّ الفرّاش حاصل على البكالوريوس في الإدارة والماجستير في الموارد البشريّة، غير أنّ الظّروف لم تسعفه لكي يلتحق بوظيفة محترمة، لقد قال له وهو ممتعض:
تصوّر يا أستاذ كلّما تقدّمت إلى عمل قالوا لي يجب أن تكون لديك خبرة على الأقلّ خمس سنوات، بالله عليك من أين آتي بالخِبرة إذا لم يمنحوني الفرصة، يا له من ظلم، لذا لم أجد إلاّ هذه الوظيفة فقبلت وفي قلبي غصة.
هدأت حدّة صوت الفرّاش ثم اِقترب من أبي طويلة وهمس:
- في الحقيقة، العمل هنا مربحٌ أكثر من أيّة وظيفة أخرى، فأنا أقوم بثلثي أعمال الموظّفين تقريبًا، وهذا بمقابلٍ طبعًا، كلّ شيء بحساب.
تفاجأ أبو طويلة فنظر إليه مستغربًا:
- يعني أنّ ثلثا الموظّفين لا يؤدّون مهامهم؟!!!.
نكس الفرّاش رأسه وهو يبتسم متمتمًا:
- يا سيّدي، نحن أمّة لا تعمل لتطوير البلاد والرّفع من مكانتها، وإنّما تعمل لأجل الرّاتب فقط.
توقّف أبو طويلة ونظر إلى الفرّاش وهو يقول:
- جميع موظّفي العالم يعملون من أجل الرّاتب.
- صحيح أنّ جميع الموظفين يأخذون راتبًا في نهاية الشّهر، ولكن في الدّول التي تحتل المراتب الأولى عالميّا يعمل الموظّف وهو يدرك أنّ الراتب الذي سيأخذه في نهاية الشّهر هو مكافأة له على عملٍ أدّاه بإتقانٍ وأمانةٍ، أمّا الموظّف عندنا فالرّاتب عنده حقّ لا علاقة له بجودة العمل ولا حسن الأداء. والموظّف عندنا لا يشعر بولائه لا للمؤسّسة التي يعمل بها ولا حتى لبلده.
قال أبو طويلة وهو يفرك لحيته:
ولماذا لم توجّه لهم النّصيحة وتعضهم لعلّهم يتغيّرون؟
يا سيّدي "إنّ الله لا يغيّر ما بقومٍ حتّى يُغيّرُوا ما بِأنفسِهم"، لقد أكّدت لهم في السرّ والعَلن بضرورة الإخلاص في العَمل والتزام الدقّة والجدّية، لكن سَخروا منّي وطالبوا بتغييري، فخَيّرت الصّمت، والله وحده يعلمُ ما في قلبي من حسرة على ما يحدث.
صمت أبو طويلة، وصمت الفرّاش وواصلا سيرهُما. توقّف الفرّاش أمام قسم المحاسبة وقال وهو يشير بيده:
- هذا القسم بالفعل من أروع ما في المؤسّسة، إذا دخلته ما عليك إلاّ أن تضحك.
اِبتسم أبو طويلة وقال:
- أضحك، ولماذا؟
لأنّ سي ماهر و سي أحمد يتسابقان في حفظ النّكات وإتحاف كلّ من يدخل عليهما بها، فدعنا ندخل لنرى.
بمجرد أن دخلاَ اِنفجر الموظّفان ضحكًا، واستغرقا في نوبةٍ من الضّحك حتّى سالت دموعهما، فقال الفرّاش وهو يقاوم رغبةً جامحةً في الضّحك:
- هيّا، ما هي آخر نكتة للمحشّشين؟
نهض أحد الموظّفين وهو يمسح دموعه من شدّة الضّحك، وبدأ يحكى لهما نكتة "طبيب تزوّج طبيبةً فأنجبا بنتًا تشبه الحُقنة".
ضحك الفرّاش وابتسم أبو طويلة، وهو مستغرب من أمر هذه المؤسسة، وقال الفرّاش:
- أقدّم لكما زميلَكما الجديد في قسم الشّؤون الاجتماعيّة.
نهض ماهر ومدّ يده يُصافحه ثم ضغط عليها وهو يقول:
- اِسمع أولاً نكتتي وقل أيّهما أفضل:"مدرّس تزوّج مدرّسة كتبوا الكتاب في السّبّورة".
ضحك أبو طويلة وكلّ من في الغُرفة وقال ماهر:
- أرأيت يا أحمد؟! لقد ضحك الموظف الجَديد.
قال أحمد:
- أعترف نكتتك أحسن، ممكن نتعرّف بالاسم الكريم؟
سكت أبو طويلة وقال الفرّاش:
- أخوكم أبو طويلة.
ضحك ماهر وقال:
وأين أمّ طويلة في البيت أم في العمل؟
فردّ عليه ماهر ضاحكًا:
- لا عند جارتها أمّ قصيرة.
ظل أحمد وماهر يستحضران النّكات، وكلّما ذكر واحد نكتةً عقب الثّاني بأخرى حتّى أحسّ أبو طويلة بالقَرف من ضحكهما المُبالغ فيه، فاعتذر وانصرف يتبعُه الفرّاش وهو يضحك. في ممرّ المُؤسّسة طلب الفرّاش من أبي طويلة أن يعرج معه على قسم الشّؤون القانونيّة. دخل الفرّاش يتبعه أبو طويلة، لكن بمجرّد أن فتح الباب صُدم أبو طويلة ممّا رأى، فتح عينيه مندهشًا؛ حزمٌ من الملابس مرصوفةً على الأدراج وكومة من الأكياس متراصّةً في زوايا المكتب، وخليط من النّساء والرّجال ينتقون ويقلّبون البضاعة، فساتين وتنانير وأقمصة وبناطيل ..وامرأة غاضبة:
- لا تفتحُوا العلب المغلقة، حافظوا على نظافة الملابس، لا أحد يخرج قبل أن يدفع...
لوّح الفرّاش بيده للسّيدة فرّدت عليه التّحية وهي تقول:
- اِرجع غدًا، وستجد الأمانة جاهزةً.
خرج أبو طويلة مسرعًا من هول ما رأى، فقد أدرك أنّه أمام مؤسّسة عشّش فيها الفساد وفرّخ . ظلّ أبو طويلة أسبوعًا كاملاً يمرّ على الأقسام ويتعرّف على الموظّفين ويوطّد علاقته بهم حتّى عرف جميع خفايا المؤسسة وطبيعة سير العمل فيها.
في نهاية الأسبوع دخل أبو طويلة على مكتب المدير دون استئذانٍ أو قرع للباب، فجُنّ جنون المدير ونهض من مكانه موبّخًا:
- اُخرجْ، اُخرجْ من مكتبي أيّها الأخرق، ألم تتعلّم كيف تتعامل مع رؤسائك؟ ألم يعلّموك آداب الاحترام؟
لم يخرُج أو طويلة بل تقدّم من مكتب المدير وجلس في هدوءٍ على مكتبه وألقى الملفّ الذي كان يحمله على الطّاولة ثم وضع رجلاً على رجلٍ في هدوء. اِتّقَد المدير غضبًا وصرخ في وجهه:
اِنصرف من مكتبي وإلاّ حطّمت رأسك أيّها الحقير.
وهمّ بانتشاله من الكرسيّ، لكنّ أبا طويلة نهض وقال بحزمٍ :
اِلزم مَكانك أيّها المدير، واعرف مع من تتكلّم، أنا المدير العام الجَديد للمؤسسة بجميع فُروعها ومنها هذا الفرع.
أحسّ المدير برجليه لا تقويان على حمله والمكتب يضيق عليه وربطة عنقه تخنقه، ففتح الزّر الأوّل من القميص وقال متمتمًا:
- ال... ال... المدير العام؟
نعم أيّها المدير، والآن اِجلس لتسمع منّي.
جلس المدير في ذلّ وذهولٍ وهو يقول:
- سيّدي كلّ الأمور في الفرع تسير على ما يرام.
لست أنت من يحدّد كيف تسير الأمور في هذا الفرع، لقد جئت في زيارة تفقّدية لهذا الفرع، ولقد كتبت المطلوب في هذا التّقرير.
أخذ أبو طويلة التّقرير وسلّمه للمُدير وخرج دون أن ينبس ببنت شفة. أخذ المدير التّقرير وقرأ: "يُحَالُ جميعُ الموظّفين على التّحقيق، بمن فيهم المدير ويتمّ تعيين الفرّاش مديرًا جديدًا للمؤسّسة.
التّوقيع : إن لم تكن ترى الله فاعلم أنّه يَراك.
على الرّكــح
بقلم وداد الكلاعي
وقف الرّجل الصغير وراء الستار، بكامل أناقته، بدلته السّوداء و ربطة العنق، أصغى السمع جيدًا صوت الجماهير من وراء السّتار ينبعث كترنيمة تطربه وتبعث في روحه سكينةً قلّما يجدها خارج هذا المكان. نظر إلى أقرانه من بعيد نظراتٍ توتر و خوف.. لم يشعر أبدًا بذلك. دقائق معدودات تفصله عن اعتلاء عرشه.. عانق رفيقته و همس: هل أنتِ جاهزة؟ تعالى تصفيق الجُمهور معلنًا عن بدء العرض.
رُفع السّتار، دخل العازفون ببدلاتهم السّوداء، اتّجه كلّ واحد إلى مكانه، اِنطفأت الأنوار و عمّ الظّلام، أمسك رفيقته وانطلقا في رحلتهما المعتادة. انطلقت الأصوات من ورائه تحاكي نغمته.. بدا المشهد كرقصة تزداد حركاتها سرعةً ثمّ تبطئ شيئا فشيئًا. كعادته فتح عينيه وبحث بين العيون، ظلام شديد، أراد رؤيتها بشدّة، أغمض عينيه، كانت جالسةً في المقاعد الأخيرة كعادتها. رغم إصراره لم تستطع يومًا الجلوس في الصّف الأوّل، توتّرها لم ينقص يومًا رغم كلماته وطمأنته قبل كل عرض كأنّما هي المعنية.
كانت تنظر تارةً وتغمض عينيها لتراه تارة أخرى، كان يراها في حلّتها الأجمل: فستانها الأبيض الطويل، ترفض ارتداءه منذ ذلك الوقت. ابتسم ابتسامةً أخّاذةً و سافر إلى الماضي. الحلّة السّوداء ذاتها. رفيقته تطرب الحاضرين، و هو جالس في الصّفوف الأولى يصغي بكلّ جوارحه ويمسك يدها. ينظر إليها من حين إلى آخر ليجد روحها غير موجودة إلى جانبه. كان يمدّ يده مرّات عديدةً ليمسح عبرة أصرت على ملامسة خدّها فتنظر إليه بحنان كأنّها تقول: دعها.
كان يُوقن أن لا وجود لأحدٍ سواه في عالمها في تلك اللّحظة. كان ذلك يطربه ربّما أكثر من رفيقته. كلّما حانت نهاية العرض كانت تمسك يده بقوّة. تذكر كلماته دوما : أهم ما في العرض آخره لأنّ ذلك هو البصمة التي تبقى في الأذهان.
ينزل السّتار فتترك يده و تركض بعيدًا إلى ما وراء السّتار. كم كان يستمتع بذلك المشهد. فتح عينيه، انتهت الوصلة الأولى، أنزل رفيقته وجلس على المقعد إلى جانب أقرانه. أضيئت القاعة من جديد، رآها هناك في الخلف، و رأى العبرة نفسها تنزل فابتسم بألم. حان موعد وصلة النّهاية، بدأت الرّحلة من جديد. رفيقته هي من تحيّيها من جديد. لم يكن يظنّ ذلك ممكنًا، كان يمسك عبراته بشدّة كلّما مرّت روحه على شاطئ تلك الذّكرى، ألمه لا يقارن بألمها. لولاك لما استطعت البقاء حيّة، كان ينسى حزنه بسببها.
الحلّة السّوداء تكتسي لونًا أحمر، رفيقته باليمين ويدها تمسك شماله، وهو واقف وراءها لا يدر ي ماذا يفعل. يومها توقّفت العبرات عن النّزول. يومها أفلت شمس سعادتهم. مدّ صاحب الحلّة السّوداء يمينه إلى الفتى الصّغير:
- هذه رفيقتك الآن.
أخذها الفتى من يدها ونظر إليها و إلى ذات الفستان الأبيض.، لم تكن هناك.. كانت روحها تغادر الجسد مثله. تجمّدت نظراتهما كأنّ الموت قد حلّ بهما معًا، نظر الفتى إليه. بادله صاحب الحلّة السّوداء النّظرة، وصلت الرّسالة.. هذا ما علمه إيّاه منذ وجد على هذه الأرض:
- كلّنا يا بني ذاهبون، ولكن لكلّ ساعته، و الملتقى هناك في الجنّة، عدني أن نكون معًا هناك.
أعدك بابا.
أمسك يده و قال:
أعدك بابا.
ابتسم والده باطمئنان وغادر العالم، سقطت مغشيًا عليها ولم تفق إلا بعد عدة أيام. اِنتهى العرض وأُسدل السّتار، وقفت من مقعدها وركضت كعادتها إلى ما وراء السّتار، رأته من بعيد يضع رفيقته في مخدعها. رآها فاتّجه إليها مبتسمًا. ضمّته إليها برفق فضمّها بقوّة، ونظر إليها:
ما رأيك؟
كان ينتظر الجواب المعتاد لكن:
هو حيّ فيك وأنا حيّة بك.
قبّل يدها وجبينها:
أمّاه. ..
همّ بتركها و الذّهاب للقاء ككل مرّة..
هل أرافقك؟
صدم من طلبها، كانت ترفض بشدّة حتّى كفّ عن السّؤال:
أمتأكدة؟ .. لديّ ما أقول له.
قاد السّيارة متجهًا إليه، أمام قبره وقف بخشوع: السّلام عليكم أنتم السّابقون ونحن اللاّحقون. جلس وجلست إلى جانبه: كيف حالك؟ اشتقت إليك، اليوم أعادني رجلنا الصّغير للحياة وأعادك. لا أدري إن كنّا سنلتقي قريبًا لكن، هل فعلت ما أردته؟ هل أنت راض عنّي؟ أنا آسفة لأنّني لم أقو على المجيء قبل اليوم، لكن ابنك يمدّني بالقوة في كلّ يوم. لن أقول ليتك هنا فأنت هنا.
استرسلت في الحديث تخبره عن أشياء كثيرة، لقاء حبيبين، كان ينظر لأمّه بسعادة: أبي لقد أنقذت حبيبتك.. أبي ملتقانا هناك، انتظرنا...