قصة

5.pdf

                                                                                            جريمةُ فكـــــــر


                                                                                        بقلم: هذباء الغويلي


كان نائمًا عندما سَمع قرعًا عنيفًا على باب بيتِه، نهضَ فزعًا جزعًا، بَحث عن جوّاله يتثبّتُ من الوقت، إنّها الثالثة صباحًا، هَمهم: خيرًا إن شاء الله، من سيأتي في مثل هذا الوقت المتأخر؟ ثم توجّه نحو البَاب.

-من الطّارق؟

-اِفتح يا عبد الرّحمن.

-من أنت؟

-شُرطة.

-بسم الله الرّحمن الرّحيم، شُرطة!

فتح الباب وهو يرتَعش من شدّة الخَوف، كادَ يبلّل سِرواله عندما رأى هَيأتهم. دخل خمسة رجالٍ عظام غلاظ بِلباس غير لباس الشّرطة يتقدّمهم رجلٌ طويل القامة أسمر البَشرة حادّ الملامِح، يُصدر أوامره لبقيّة الرّجال.

اِبحثُوا في مَكتبه وفي جميع أركان البَيت عن أيّ كتابٍ أو مجلّة، أو حتّى ورقة مرميّة في القُمامة.
توجّه بقية الرّجال للبَحث وعبد الرّحمن في حيرةٍ من أمره.
-سيّدي، معذرة، لكن أنتم لستم من شُرطة المدينة، فأنا أعرفهم جيّدًا؟

نحنُ شرطة الفكر؟

معذرةً، شُرطة ماذا؟

غَضب الرّجل واَبتعد عنه يبحثُ في زوايا الصّالون عن أيّ دليلٍ يُدين عبد الرّحمن.
-قلت لكَ شرطة الفكر، ألم تسمع عنها؟

كان سيُخبره أنّه لم يَسمع عن شيء مثل هذا من قبل، وأنّه لم يعرف أنّه أصبح للفِكر شرطة تتبعه وتُحاسبه وتُعاقبه إن استدعى الأمر، لكنّه خشي أن يعتبر صَاحب شرطة الفكر ذلك استنقاصًا من شأنه وشأن شُرطة الفِكر، كما خَشي أن يعتقد أنّه غيرُ مواكب لما يحدُث في البلاد، فقال وهو يَفرك يديه:

-كيف لا أسمع عنكم سيدي؟ لقد سَمعت عنكم كلّ خير.

عاد الرّجال بعد أن غابُوا بعض الوقت يَحملون مجلاّتٍ وبعض الكُتب القَديمة والسّيديهات. قال أحدهم وهو يقترب من صاحب شرطة الفكر:

-سيّدي، هذا كلّ ما وَجدناه.

-ممتاز، تحفّظوا عليها وأحضروا عبد الرّحمن معكم.

صُدم عبد الرّحمن من قول صَاحب شُرطة الفكر، فارتعشت شفتاه وغارت عينَاه.

-سيّدي، والله العظيم لم أفعل شيئًا، ولا أعلم حتّى لماذا جئتم.

-عندما تذهب مَعنا إلى مركز الشّرطة ستعرفُ ماذا فعلت.

عبد الرّحمن أمين المكتبة العُمومية، قارب الخمسين ولم يتزوّج، معروفٌ بانطوائيّته، قليل الزّيارات لأهله، حتّى أنّه في بعض الأحيان لا يَراهم إلاّ في المناسبات، وتبدُو عليه عَلامات بسَاطة التّفكير والفَهم. وليس له أصدقاء إلاّ حامد مدرّس فلسفة ومحمود ممرّض بمستشفى المدينة.
حُمل عبد الرّحمن إلى مركز شُرطة الفكر، وأدخل إلى غرفة شبه مظلمة وطُلبَ منه الانتظار.
جلس عَبد الرّحمن وهو يَسترجع سجلّ أعماله للأشهر المَاضية. لم يفعل شيئًا غير عاديّ طيلة هذه الأشهر؛ يَستيقظ صباحًا، يتناول فطوره ثم يذهب مشيًا إلى مقرّ عمله، وعندما يَصل يقرأ الجَريدة، وبالتّحديد "حظّك اليوم" وقسم الرّياضة وأسماء الفائزين بورقة اليَانصيب، ثم ينهَمك في حلّ الكَلمات المُتقاطعة ينتظر من سيأتي ليستأجر كتابًا فيأخذ بطاقته ويسجّل تَاريخ الاستلام وتاريخ التّسليم. ولا ينسى أن يُخبر المستأجر:

-إذا تأخّرت عن تاريخ التّسليم لا يحق لك أن تأخذ كتابًا لأسبوعين.

ضرب عبد الرّحمن جبينه بكفّ يده ونَهض من مكانه ثم عضّ على سبّابته. لقد تذكر ماذا طرأ عليه خِلال هذه الفترة، نعم لابدّ أنّه السّبب في قُدومه إلى هنا، ولكنّه لم يكن مذنبًا، هي من نَادت عليه من خلف بَابِها وطلبَت منه الدّخول.

كانَ ذلك في ليلة شِتاء ماطرةٍ انقطع فيها الكهرباء فَخرج من بيته ليُدرك دكّان الحيّ ويَشتَري منه بعض الشّمعات قبل أن يُغلق. وعندما كان في طريقه سَمع صوت أُنثى يُناديه من وراء باب، اِرتعدت فَرائصه واقتَرَب من البَاب.

-عبد الرّحمن، هل يمكن أن تشتري لي بعض الشّموع من الدكان؟

-حاضِر ، حاضِر أُختي هاجر.

هَاجر أرملة في أواخر الأربَعين من العُمر، ماتَ زوجُها وترك لها فَتاتين تزوّجتَا، وذهبت كلّ واحدة لتَعيش مع زَوجها في مدينة أخرى. اِشترى عبد الرّحمن علبةً من الشّموع وعَاد مُسرعًا فالمطر لم يترك له مكانًا إلاّ وبلّله.

عندما رأته هاجر وهي تفتح له البَاب مُبلّلاً طلبت منه أن يدخُل ويَشرب معها فنجان شاي حتّى يتوقّف المطر عن النّزول، رَفض في البداية لكنّه وافق بعد أن ألحّت عليه.
وبينما هو يفكّر دخل عليه صاحب الشّرطة ومعه أحد الأعوان. أضَاء صاحب الشّرطة الغرفة وجَلس على مكتبه. وجلس العون بجانبه ليسجّل أقوال عبد الرّحمن. نظر عبد الرّحمن إلى صَاحب الشّرطة نظرة من ينتظرُ الحكم عليه بالإعدام:

-سيّدي، أقسم بالله العظيم لم أفعل شيئًا.

- عبد الرّحمن، سننتظر حتّى يأتينا التّقرير النّهائي، وبعد ذلك نقرّر. عبد الرّحمن أنت أعزب أليس كذلك؟

-نعم سيّدي، أنا لم أتزوّج إلى حد الآن.

-ولماذا لم تتزوج؟

- سيدي، ومن يَستطيع الزّواج في هذه الأيّام الصّعبة، كلّ شيء أسعاره مرتفعة، الإيجار، الفواتير، حتّى الشّمع غلا ثمنه...

-ينهضُ صاحب الشّرطة، يعني أنت ضدّ سياسة الدّولة في رفع الأسعار؟

-لا، لا، أقسم بالله أنّني مع الدولة في أيّ قرار تقرّره ، فهي تعرف مصلحتنا أكثر منّا.

-ممتاز يا عبد الرّحمن. أنت تعمل إذن أِمين مكتبة منذ رُبع قرن تقريبًا.

-نعم ، سيّدي منذ خمسة وعشرين عامًا و ثلاثة أشهر وأسبوع.

- رائع يا عبد الرّحمن، يعني أنت مطّلع تقريبًا على جميع الكُتب الفكريّة والسياسيّة وكتب المَذاهب

والإيديولوجيات في المكتبة؟

-سيدي، أنا مهمّتي فقط هي تأجير الكتب فقط لطَالبِيها، وكلّ ما أقرؤه هو العَناوين فقط.
-أيعقل هذا، رُبع قرن ولم تَفتح كتابًا واحدا لتقرأه. فكيف تمضي وقتك في المكتبة؟
- سيدي، والله العظيم أنا لا أحبّ القراءة وأكره التّعليم، لذلك فُصلت من الثّانية ثانوي لكثرة رُسوبي، وأمضي وقتي في قراءة الجرائد.

-آه، يعني أنت ملمّ بما يحدث في البلاد من خلافات سياسيّة وفكريّة.

-سيدي، بصراحة أنا لا أقرأ إلاّ صفحة الرّياضة و"حظّك اليَوم" والفائزين بورقة اليانصيب.
يغضب صاحب الشّرطة ويجلس.

-وعلاقتك بجَارتك هاجر؟

-السّيدة هاجر مُحترمة وعلاقتي...

-هي محترمة، لكنّها معك أكِيد لم تكن كذلك.

-والله هي مُحترمة مَعي ومع غَيري.

-يَنهض صَاحب الشّرطة غاضبًا.

- لكن هناك من رآك تدخل إلى بيتها ليلاً بملابس مبلّلة وتخرج من عندها بعد ساعة وعشر دَقائق

بملابس أخرى جافّة.


-صحيح كَلامك سيّدي، ولكن والله العظيم لم يَحصل شيءٌ بيني وبينها.

- أنا لست ضد أن يحصل بينكما أيّ شيء، فأنت أعزب وهي أرملة والمرأة بيني وبينك مازالت مثيرة. ولكن أنا ضدّ أن تكذب عليّ.

-سيّدي، قل لِي ماذا تريد منّي أن أقول وسأقوله.

في هذه الأثناء يدخل أحد الأعوان يحمل الكتب والمجلاّت التي أخذوها من بيت عبد الرّحمن. يضع الكُتب على الطّاولة أمام صَاحب شرطة الفكر ويحيّيه تحيّة عسكريّة ويقول:
-سيّدي، كل ما وجدناه هو بعض المجلاّت عن مشاهير الفنّانات وصور خليعة لبعض الممثلات وسيديهات لأفلام إباحيّة، أمّا الكتب فأكثرها يتحدث عن العلاقات الحَميميّة، والخُطوات الأولى للتقرّب من الأنثى.

-هذا فقط، وألا يوجد مصحف قرآن بينها أو بعض الكتب الفكرية؟

-سيّدي، لم نَعثر على أيّ شيء ممّا ذكرت، وهذا تقرير بذلك.

-يمكنك أن تَنصرف.

ينصرفُ المُوظف ويأخذ صاحب شرطة الفِكر التّقرير ويمرّر عينيه عليه.

-اجلس يا عبد الرّحمن، اجلس.

يجلس عبد الرّحمن خائفًا.

إذن هل يُمكن أن تشرح لي موضوع المُحاضرة التي ألقيتها على طلاّب الثانوية صباح يوم أمس؟ لقد كان العُنوان مثيرًا: "أنا أفّكر أنا موجود".

-سيّدي، أقول لك الصّراحة، والله العظيم أنا أيضا لم أفهم مُعظم ما ورد فيها.

-أتسخر مني؟ كيف تكتب شيئًا وتُلقيه على مسامع الطّلاب وأنت لا تعرف معناه.

-سيدي، في الحقيقة، أنا لم أكتب موضوع المُحاضرة، صديقي حَامد مدرّس الفَلسفة هو الذي كتبها، فعندما جَاءني مدير الثّانوية وطلب مني أن أُلقي محاضرةً على الطلاّب طلبت من صديقي حامد أن يُساعدني فكتب لي تلك المُحاضرة.

-آه ، الآن فقط فهمت، لأنه مُستحيل أن تكون تلك الأفكار نابعةً من شخص مثلك.

يلتفت صاحب شُرطة الفكر إلى الموظّف:

أكتب: يتم إخلاء سبيل عبد الرّحمن محمد عبد اللاّوي وإحضار حامد عز الدّين للاِستجواب.

ينهض عبد الرّحمن ويقبّل يد صاحب الشّرطة:

-الله يبارك في عمرك سيّدي، ويفتح عليك.

-اسمع يا عبد الرّحمن، أنصحك أن تتزوّج بهاجر، المرأة محترمة.

-أعرف ذلك سيّدي، ولكن هل تعتقد أنها ستوافق؟

-أنا متأكد من مُوافقتها، غدًا فاتحها في الموضوع وستوافق.

ينصرفُ عبد الرّحمن مسرعًا وهو يلتفت خلفه وكأنّه لا يصدّق أنّه خرج دون ضرر. أمّا صاحب شرطة الفكر فنظر إليه نظرةَ تعجّب وردّد بينه وين نفسه:

-أحمق، الآن فقط تأكّدت أنّه لم يحدث بينه وبين هاجر أيّ شيء، المرأة أدخلته بيتها وأعطته ملابس زوجها وغامرت بسُمعتها، وهو يسأل إن كانت ستُوافق أم لا.

جدائلالصّمت

بقلم: نجاة فقــيري

كان الزّحامُ خانقًا، يسدّ أرق النّسمات عن الولُوج إلى هذا القطار المتهالك، المكتّظ، الصّدئ المليء بالآهات والتّأوّهات، يَسير ببطء متمايلاً مع ثقل الحمل، متهالكًا من ثقل السّنين والإهمالِ.

يصعدُ الجميع، يتزاحَمُون، يتدافعُون، تزلّ أقدام وتسقُط وقليل ونادر من ينتبه لها. الشّاب المتهوّر يجلسُ فاتحًا سَاقيه كالطّاووس يُقهقه أحيانًا وينطق بالكلام البَذيء أحيانًا أُخرى، وعجوزٌ واقفةٌ بين الجموع ترتعش، وكهل بَائس يَتململ، وفتاةٌ سمراء صغيرة في منتصف عقدها الأوّل بجدائل سوداء طويلة متشبّثة بحَقِيبتها، شاردة بنظرة متململة، تُشيّعها بعيدًا لكي لا تقع على الشّاب الذي يَلتهمُها بنظراته الوَقحة. تهربُ بعيدًا لكي لا يقع نظرها على العُيون الشّرهة التي لا تعرف حزنها الشّديد و كُرهها الشّديدَ لهذا القِطار وهذه الرّحلة.

تُغمض الصّغيرة عَينيها الوَاسعتين، يطيرُ خَيالها إلى أيّام طُفولتِها غير البعيدة، أيّام كانت فراشة ترتَعُ في الحُقول والرّوابي، تُسابق ضَفيرتها السّوداء الطّويلة. كانت تعتقد أنّ العَالم كلّه قريتها البَسيطة بأناسها البُسطاء. لم تكُن المسكينَة تعرفُ أنّ الفقر أبشع الجَرائم.كانت أحلام فتاةً صغيرةً حالمةً، ابنة رجل فقير من القَرية، لها ستّة إخوة،بنتان و أربعة أولاد. درست أحلام فِي مدرسة القَرية البَعيدة الصّغيرة وتميّزت بين رفاقها. كانت تحبّ دِراستَها كثيرًا رغم إصرار أبيها على اِنقطاعها في كلّ مرّة ويصر أنّه عليها العمل لمساعدتِه على إعالة إخوتِها.

صرخ يومًا قائلاً:

- فيم تفيدنا دراستُك، ومن سيدفع مَصاريفَها؟ الدّراسة يا ابنتي للأغنياء و لاَ أمل لأمثَالِنا فيها، يجبُ أن تذهبي للعملِ في العَاصمة، لقد وجَد لك جارُنا عملاً حيث تعمل ابنته، الأسبوع المُقبل سَتَذهبين للعمل عند إحدى العَائلات الغنيّة في العاصِمة.

صرخت الأم:

أيّ عملٍ لبنت صغيرةٍ لا تحسن من أعمال المنزل شيئًا يا رجل؟ ابنتُنا ما تزال صغيرة جدًّا، إضافة إلى أنّها متميّزة في دراستها وستنتقل العام المقبل إلى المعهد...

صاح مهددا:

- أغلقِي فمك يا امرأة و إلا...وَ رفع عكّازه مهدّدًا.

بكت أحلام واختَنَقت شَهقاتُها، وشَرخت المرارةُ قلبها الصّغير. هي لا تريد الابتعاد عن أمّها، هي لا تريدُ تَرك مَدرستها، هي تريد أن تحقّق أحلامًا جميلةً طالما نسجتها.اِنطلقت إلى العاصمة شاردةً خائفةً، و بدأت صورة العالم الجديد الكبير الواسع تتّضح أمامها. كم كانت قريتها صغيرةً وربّما مجهولةً.

كان المنزلُ الذي تعملُ فيه لأحد الأثرياء فخمًا كبيُوت القصص والمسلسَلات التي كَانت تُشاهدُها مع خالتها في منزل جدّها، كانت سيّدة المنزل مغرورةً قاسية القَلب تنظرُ إلى الفتاة الصّغيرة البائسةِ نظرة اِحتقارٍ وتعالٍ. كانت سيدة أنيقةً جميلةً بعينين عسليّتين برّاقتين وثوبها الزّاهي القصير عديم الأكمام يزيدُها جمالاً. كانت حازمةً متصلّبةً متقلّبة المِزاج تعامل الفَتاة كالحيوان الأبرصِ وتكلّفُها بكلّ الأعمال الشّاقة رغم صغر الفتاة وضمُور جِسمها.كان صاحب المنزل لا يَكاد يظهرُ أبدًا إلاّ أوقات الطّعام حيث كانت هناك خادمة أخرى تعدّ الطعام وتقدّمه، أمّا أحلام فقد كُلفت بباقي الأعمال.

تنهّدت المسكينة، بكت، صرخت"يا مفرّق الأرزاق". كتمت أنينها ومرّرت يَدها الصّغيرة على جرح عميقٍ أصاب سَاقها، شعرت بألمٍ حادٍّ يقصمُ كل فقرة في جسمها. نامت حزينة كئيبةً وحيدةً، نامت الصّغيرة وهي تفكّر في ولدي سيّدتها الجميلين النّظيفين بأثوابهما الأنيقة ولُعبهما الجميلة وفراشيهما الوثيرين، هما في مثل سنّها تقريبًا، هي لا تريد ما يملكانه رغم أنّها حلمت به كثيرًا، هي فقط تريد حضن أمّها الدّافئ وبيتها البسيط البارد وقريتها البعيدة المجهولة.

كان يومُها يبدأ باكرًا بتنظيف المنزل الكبير، كلّ زاوية و كلّ ركنٍ وإزالة الغبار عن الرّفوف والأثاث الفَخم، ثمّ طيّ الثياب وكيّها بعد خروجها من الآلة العجيبة، الخادمة الأخرى علّمتها القيام بهذه الأعمال الشّاقّة المجهِدة، أما السّيدة المغرورةُ فكانت تتذمّر دومًا وتشتُمها. تنظّم بيت الطّفلين حتّى تشعر بالإغماء فوق الألعاب المبَعثرة هنا و هناك، تنظّف النّوافذ فوق السّلم و هي ترتعشُ وكم من مرّة تسقطُ وتتألّم وتقف وتبكي وتُواصل. تنشّف الأواني الكثيرةَ بعد خُروجها هي الأخرى من الآلة العجيبة، وترصِفُها في أماكنها وهي حائرةٌ من كمّ الأواني والأكياسِ والملاعِق والسّكاكين، عشاء هذه العائلة وإفطارهم يكفي عائلتها لشهرٍ كاملٍ.

مرّت ثلاث سنوات متثاقلة حزينة، لا تزُور فيها أحلام قريتها إلاّ في عيد الأضحى، أمّا راتبها فكان يُرسله سيّدها مباشرةً إلى والدها مع جارهم. شعرت أحلام أنّ أحلامها دُفنت وتمنّت العودة إلى قريتها ورعي الأغنام ومُساعدة أمّها في فلاحة الأرض.

توقّف القطار فأفاقت أحلام من شُرودها، نزلت والتَفتت إلى القطار الكئيب مودّعة، هي لن تعود لصعوده أبدًا، هي ستتحرّر من قيود الرّضوخ. وصلت قريتها، أسرعت إلى الحقول تبحثُ عن أمّها وإخوتها، كانوا يُساعدون كبار الفلاّحين في جمع محاصيلهم، عانقت أمّها بقوّة، قبّلتها واحتضنتها بدورها قائلة:

- لقد اشتقتُ إليك كثيرًا يا ابنتي وما عدت أطيقُ فِراقك يا صغيرتي.

قالت أحلام واثقةً: 

- سوفُ لن أغادر القرية بعد اليوم يا أمّي.

استغربت الأمّ ثقة ابنتها التي أردفت:

- سأعودُ إلى المنزل لأعدّ لكم العشاء يا أمّي، سأنتظركِ على أحرّ من الجمر يا غالية. ثم عانقتها عناق مودّع.عادت الأمّ وأبناؤها إلى الكوخ في شغفٍ لرؤية أحلام، فجأة دوّت صرخةٌ هزّت المكان واجتاحت القرية اجتياحًا. أحلام تتدلّى من حبلٍ موثق بإحدى أعمدة الكوخ وضفيرتُها السّوداء تتدلّى بجانبها، ووجها مبتسمٌ ابتسامة رضا ونهاية للمعاناة، هي لن تُغادر قريتَها بعد اليَوم.

 

الدّلالي ولد ربح

 

 بقلم: عبد الكريم البوزازي

 

الدّلاّلي، هكذا يُسمَّى، والسّبب بسيط، فالاسم مشتقّ من الدّلال. أرادوه مدلّلاً لأنّه وُلد بعد معاناةٍ طويلةٍ عاشتها أمّه المسكينة رافقتها أزمة إنجابٍ، ذاقت فيها المرارة تلو المرارة، فلقد كانت المرأة مهدّدةً في استقرارها العائلي؛ العفس والرّفس نصيبها اليوميّ، فالأب كان قاسيًا معها جلفًا ومتعجرفًا، زد على ذلك رغبته الملحّة في وجود ذكرٍ في نسله يتفاخر به بين إخوته وعشيرته. فهو لا يمكن أن يكون استثناء في عرف مُجتمعه.

دلف يومًا إلى بيت بيته وهوى على امرأته بعصا زيتون غليظةٍ يابسة مردّدًا:

- إن كنت غير قادرةٍ على الإنجاب فمصيرُك المشؤوم ينتظرك أيّتها الحمارة.

هكذا كان يُخاطبُ المسكينة الذّليلة، فلا تتجرّأ على الرّد، بل تكتفي بالصّمت والدّموع الحارقة الغزيرة تملأ مآقيها وتسيل على خدّيها. أمّا جسمها النّحيل الجافّ والذي كان موضع تهكّم وسخرية زوجها فكان كساق قصبٍ يرتعش عند كلّ كلمة فيها وعيد وتهديدٌ بالطّلاق.مرّت خمس سنين وأمّ الدّلالي تُعاني صلف زوجها مسعود وضربه المبرح، وفي إحدى المرّات كسر لها إصبعًا من أصابع يدها لما أرادت أن تتفادى عصاه المتهورة.

 

كان الجميع يعرف كلّ شيءٍ عن خصوماته مع زوجته وتفاصيلها ككلّ الأخبار . كان كلّ شيء علنيًّا، لكن لا أحد يتجرّأ على التّدخل لصعوبة مزاج مسعود وغطرسته. كان يومًا غير طبيعيّ لما اكتشف مسعود أنّ زوجته ربح حامل، هاجَ وماجَ.خرج عن طوره فأخرج بندقيّة صيد ورثها عن أبيه - وهي من نوع "سانت إتيان" أبدلها له أحد  الثّوار الجزائريّين لمّا كانوا ينشطون في الكفاح المسلّح لطرد المحتلّ الفرنسيّ من الحُدود الغربية التّونسية الجزائريّة – ثم أطلق طلقاتٍ في الهواء. كان المسكين في تلك اللّحظات الهستيريّة يهذي:

- ربح حبلى، ربح حبلى، ربح باش تجيب طفل، ربح باش تجيب طفل.

لم يكتف مسعود بالطّلقاتِ النّاريّة في الهواء بل وضع بردعةً على ظهر بَغلته الوَحيدة واتّجه إلى القرية المجاورة ليتبضّع احتفاء واحتفالاً بالحدث السعيد.مسعود تميّزه قامته القصيرة ولونه المائل إلى الزّرقة. له كرش مكتنز لحمًا وشحمًا ولحية تبدو كالغابة كثيفة الأعشاب والأشواك، يتركها لأكثر من أسبوع حتّى تنمو ثم يَحلقُها، يلبس بدلةً زرقاء يتسلّمها من المعتمديّة كلّ ثلاثة أشهر عندما يعمل في الحظائر. كان يعشقُ بدلته وكأنّه ينتمي إلى حزب عماليّ يساري يتبنّى الفكر الشَيوعي الاشتراكي. لكن حقيقته تقول إنّه أبعد ما يكون عن الإيديولوجيا.

 

لم ينل نصيبه الكافي من الدّراسة والتّعليم فاَكتفى بحفظ سبعة أحزاب من القرآن الكريم لمّا كان يدرس في الكُتّاب يُشرف عليه سي فرحات المؤدّب رحمه الله. سي فرحات المؤدّب المعلّم والمختصّ في ختان الأطفال في ذلك الوقت، ختن أجيالاً وأجيالاً من الأطفال. يكتفي بأدوات بسيطةٍ تتمثّل في مشرط حادّ ومقصّ. أمّا مواد التّعقيم فكان يشير على أهل الطّفل المختون باِستعمال الدّاكان والدّواء الأحمر ( ماركيريكروم ) أو رماد الكَانون.ورث مسعود عن أبيه خمس هكتاراتٍ من الأرض، يقتات من زرعها حبوبًا وخضرًا بطريقة البَعلي لأنّ المياه كانت شحيحةً والأمطار غير منتظمةٍ.

 

في إحدى ليالي شهر جانفي سمع أهالي الدّوّار صياحًا خافتًا تارةً ومرتفعًا تارة أخرى، لا شكّ أنّ وراء هذا التقطّع في نسق الصّياح سببًا أو أسبابًا، ولعلّ أرجحها خوف ربح المسكينة من المفاجئة الملعونة. إذ كانت تخشى أن تَلد بنتًا تعكّر صفاء انتظار زوجها مسعود.حُملت ربح إلى المستشفى القريب أين تمّت عملية الولادة بصورة طبيعيّة في قسم الولادة بمساعدة أخصائية في التّوليد يرافقها طبيبٌ وممرضتان. أمّا مسعود فكان ينتظر في قاعة الاستقبال أين تتكدّس أعقاب السّجائر الممزوجة بكثرة الحركة والصّياح والفوضى والرّوائح الكريهة. في هذا الجوّ المشحون المقلق كان مسعود لا يتوقّف عن الحركة، فهو كالمعتوه يمضي جيئةً وذهابًا داخل القاعة كالذي أصابه مسّ، يدخّن ويبصق في القاعة، يزفر كالجحش الذي فقد والدته.

لمّا لمح خروج الممرّضة قفز نحوها ليستجلي الخبر.

- مبروك،مبروك، ولد ولد.

ردّ مسعود

- الله يَبارك فيك.

ونفخ نفخةً ارتجّت لها منديل الممرّضة وتناثر رذاذُ ريقه الممزوج بالنّفة ورائحة التّبغ الرّخيص. وكاد يُغشى على المرأة، لكنّها تماسكت وأضافَت:

- أيّ اسم ستختاره له ؟

- الدّلاّلي،الدّلاّلي من فضلك .

 

كان مسعود ينتظر وحيدًا خلاص زوجته، ولم يكن يُرافقه أحدٌ لأنّه متخاصم مع الجميع بسبب تدخّلهم في خصوماته مع زوجته. وكلّ خصوماته مصدرها تأخرّها في الإنجاب، وما يتفرّع عن ذلك من التّشكيك في فحولته، وأشياء أخرى كثيرة لا يدركُها إلاّ هو أو المختص في التّحليل النفسي.

 

ضحك مسعود ملء شِدقيه، وظَهرت قَواطعه وأنيابُه وبعض الأضراس، وبان معها لون أصفر غامقٌ بسبب شرب الشّاي الأحمر والتّدخين. ضحك، ضحك عدّة مرّات، وتحولت ضحكاته المتتالية إلى خرخشات في صدره الذي أنهكه التّدخين.

أين المبروك يا سي مسعود؟ ردّدت الممرضة مقهقهةً.

اِرتعش مسعود وأدخل يده المرتَجفة في جيب لباسه الأزرق وأخرج قطعتين من فئة خمسة دنانير وضعها في كفّ الممرّضة قائلاً:

- سامحيني يا مدام، هذا ما عندي في جيبي، إن شاء الله المرّة الجاية نعوّضها لك أكثر.

وكان مسعود يلمّح بذلك إلى رغبة ملحّة في ازدياد نسله من ربح المسكينة الصّبورة التي أهانها وعبث بها.

تم عمل هذا الموقع بواسطة