حديث المواسم
بقلم: الأمين الكحلاوي
إن في اختلاف المواسم لآيات ودلالات وللقوم في هذه الفصول الأربعة على مدار العام شؤون وأعمال فإذا حل موسم الخريف صعد الناس بأبصارهم تلقاء السماء وتناقلوا فيما بينهم أخبار الطقس وهم يأملون أن يكون العام ممطرا فلا أمل لهم سوى أن تجود عليهم السماء بخيراتها حينئذ ينتشر البشر بين الفلاحين ويبدأون في الاستعداد لموسم الحرث فأول ما يقومون به هو تسميد الأرض بالغبار الذي تم جمعه من فضلات الحيوانات طيلة العام آو اكثر وهي أسمدة عضوية مفيدة للأرض خالية من المواد الكيميائية يتم تحميلها على الأحمرة والبغال في الغباري وهو على شاكلة الزنبيل مخصص لحمل الغبار أو الزنبيل ثم يتم توزيعها وتفريقها على مساحة الأرض التي سيتم زرعها.
وفي هذا الفصل يقوم بعض السكان ببناء أكواخ جديدة فيصنعون اللبن من التراب المخلوط بالتبن والماء بعد أن يتم عجنه بالأرجل جيدا حتى تصير كالطين متماسكة قابلة للتشكل في قوالب مكعبة الشكل متساوية حيث يوضع ذلك الطين في إطار خشبيّ مكعّب فتح أسفله وأعلاه يسمى صندوق القالب تشترك فيه أكثر من عائلة، وهو عمل شبيه بفن تشكيل الطين، ثم يترك في مكانه لتجففه الشّمس فييبس ثم يرصف بعضه فوق بعض، فيكون حينئذ مادّةً البناء المفضلة لدى أهل القرية، بل في جل القرى الجبلية. ثمّ يتداعى البناؤون من أهل القرية والمساعدون في حركة تضامنيّة للمشاركة في رفع القواعد من الكوخ أو النوّالة.
والنوالة اسم لبيت من الطّين والقشّ يمكن إتمام بنائه خلال يوم واحد تجعل فيه "طاقة" أو أكثر حسب حجمه. والطّاقة هي كوّة يدخل منها نور الشّمس والهواء، ويجعل فيه قناة أسفله ملاصق للأرض ليتسرب منها الماء المستعمل أو الماء الذي يقطر من القربة المعلّقة بأحد أركان الكوخ مشدودة بحبل من أطرافها إلى أعلى قد أحكم ربطها في خشبة من أخشاب السّقف، فإذا استوى البناء يتم تغطيته بأغصان الأشجار والقشّ، ثم يحفر بمحيطه الخارجي الملاصق للبيت أخدود يسمّى "ونْي"، وهو بالعربية الفصيحة يسمى" نؤي" يحجز المياه عن أن تتسرب من بين جوانب البيت إلى داخله.
ثم يُوضع فوق ذلك مادة الدّيس، وهي نبتة شبيهة بالحلفاء فإذا صفّفت بإتقان كانت مانعًا من تسرّب قطرات المطر والمياه إلى داخل الكوخ، وتُجلب هذه المادة من الجبال المجاورة، وأشهر جبال الدّيس في هذه المنطقة بل في كلّ أرياف غارالدّماء تقريبًا هو جبل "بالسّواقي" المحاذي لجبل البلدة قرب دوار السّلاطنيّة وعين غزاة من معتمدية غارالدّماء حيث تشدّ الرّحال لجلب الدّيس على ظهور الخيل .
وقد ورد في مقال لبوجمعة الفيالي ما يلي: التّدييس: ديّس القربي أو المعمّرة أو النّوالة، أي غطّاها بالدّيس بطريقة محكمة تجعل مياه الأمطار تنزلق فوق الدّيس ولا تدخل فيه أبدًا، بل تنساب خارج المسكن. الدّيـــس : " Le Diss "واسمه العلميّ " Ampélodesma mauritanicum نبتة تشبه الحلفاء كثيرًا، ولكنّ خاصيتها في ورقتها الطويلة والمسلّحة بأسنان مائلة في اتجاه واحد، وهي تجرح كأسنان المنشار .
وموسم الخريف موسم زراعة الأرض فيتفقد الفلاح الزّريعة، أي البذور التي ادخرت لمثل هذا الفصل وقد حرص على المحافظة على البذور الأصيلة قبل أن تغزو أراضيهم البذور المستوردة التي أغلبها لم يتلاءم مع طبيعة تربتنا ولا يقبل التخزين، ففقد الفلاح أنواعا من الحبوب الجيدة.
وتبدأ عملية الحرث بالماشية والمحراث العربي المصنوع من الخشب. وقد بين بوجمعة الفيالي مكوّنات المحراث وعملية الحرث قائلا: وتجدر الإشارة إلى أنّ نجاح عمليّة الحرث في هذا المضمار ترتكز على ثلاثة أشياء مهمة هي: حرّاث ماهر يقود الماشية ويتحكّم فيها كما ينبغي، وثوران قويّان يجران محراثًا مشدودًا إليهما ويوجّه السكّة من ورائهما حراث ماهر . وسكّة حديد حادّة ومصقولة بحرفية كبيرة Un soc bien forgé et rigoureusement rattaché à la charrue ، يربط كلّ معاون ثوريه في المحراث، كما يحكم وثاق "الكِفّة" (2) ( Le joug ) .
وفي الوقت نفسه تنطلق عمليّة جني الزّيتون، وتشتهر معتمديّة غارالدماء بغابات الزّيتون المنتشرة في كل جهاتها. فتزدان حقول الزيتون بألوان مختلفة من الكاغد البلاستيك الذي يبسط تحت الشّجرة يستقبل في إيقاع بديع حبات الزّيتون التي أسقطتها أيادي العاملين من الفلاحين والعشارة. والعشّار هو من يعمل عند صاحب الأرض مقابل عشر المحصول اليومي، فترى النّسوة خاصة يتنافسن في جني الزّيتون لجمع أكثر ما يمكن من الحبّ. وعند الغداء تجتمع العائلة تحت شجرة الزّيتون لتناول وجبة الطعام ثم يعود العمال مسرعين إلى عملهم. ويرتكز جني الزّيتون على اليد العاملة النسائية وهو ما يبين دور المرأة الرّيفية في الدّورة الاقتصادية.
وعند حلول الشّتاء ببرده القارس وأمطاره الغزيرة وثلوجه الكثيفة كنّا نجتمع ليلاً في بيت أحد الجيران للسّمر، حيث نستمتع بسماع الخرافات والحكايات يرويها الشّيوخ والعجائز تتلقفها الآذان ويرويها جيل عن جيل. وتتميز هذه المنطقة بكثرة الثّلوج التي تجلل ببياضها النّاصع قمم الجبال والمرتفعات، وتغطي الأكواخ فلا تكاد تتبيّن ملامحها، وقد انبعث دخان النّار من كواها فتهدأ حركة النّاس حينئذ طلبًا للدّفء.
ويجتمع الرجال في حانوت القرية للعب الورق عادة أو لتبادل أطراف الحديث، بينما تكتفي النّسوة بتقديم العلف للحيوانات في اصطبلاّتها أو في الزّريبة أو الحوّاقة (بتثليث القاف) بالنّسبة إلى الغنم. والحوّاقة بيت مخصّص للماعز أو الغنم، وتحبس الحيوانات في أيّام البرد الشديد حفاظا على حياتها، فالثلوج تمنعها من الخروج إلى الرعي، وقد يستمر هذا الأمر أيّامًا حتى "تخرج القرّة"أي يذوب الثلج ويصحو الجو قليلاً.
فإذا أقبل فصل الرّبيع، ودخلت الليالي السّود وبرعم كل عود استبشر النّاس بقدوم فصل الخيرات حيث يكثر العشب وينمو الزّرع ويتوفر المرعى وتزدان الطبيعة بألوان الزّهور المختلفة، ويكسو اللّون الأخضر منظر الطّبيعة، وتتوالد الحيوانات ويدر الضّرع باللبن، ويصيب الفقراء منه قدرًا لا بأس به تكرّمًا وتفضلاً وشكرًا على النّعمة، فلا بغض حينئذ ولا حسد فكل عباد الله إخوان. وفي أمسيات الرّبيع تنطلق النّسوة لـ"تقمر" بالقاف المثلثة لجلب العشب الأخضر واقتلاعه بالأيدي من المزارع، وتسمى هذه العملية "القميرة"، ثم يحملنه على ظهورها ليقدم عشاء للأبقار والخيل .
ومع حلول شهر ماي يبدأ مربّو الأغنام في جزّ صوف الأغنام بالجْلم، أي قطعه بمقصّ كبير أعدّ لذلك خصيصًا، وتكون القيلولة، وتسمى الضّحوة هي أفضل الأوقات للقيام بعملية نزع الصّوف وفصله عن جلد الشّاة من الغنم لتجد متنفسًا أثناء الحرّ، ولتجدد كسوتها من الصوف ثانيًا، ولينتفع به الفلاح استعمالاً وبيعا. وأما فصل الصيف فهو موسم الحصاد، وتجميع الصّابة من الحبوب والقيام بعملية الدّريسة كما يصوّرها لنا الأخ بوجمعة الفيالي في خاطرة له بصفحة المنتدى بعنوان "الدّريسة في الأرياف صيفًا"، وقد اقتطفت منها هذا المقطع:
"لعمليّة الدّريسة تحضيرات مهمة لا بدّ منها، حيث يقوم صاحب النّادر بجلب ما يكفيه من الحيوانات المهيّأة للدّريسة من حمير وبغال وخيول تكون حوافرها مجهّزة بصفائح حديديّة مصنوعة لدى حدّاد مختص في هذه الصّنعة. ويشرع الفلاّح في عملية الدّريسة فيربط الحمار، ثقيل الحركة في أوّل "الدُّور"، والمقصود بالدّور هي الحيوانات التي تقوم بالدّريسة. ويربط البغال في الوسط، وهي متوسّطة السّرعة. وأخيرًا يربط الخيول، سريعة الحركة والمتعودة على الرّكض الطويل في أوسع الدّوائر. ويسمى الحمار المربوط في أوّل الدّور بــ"الجّبّاد"، كما يسمى آخر فرس مربوط في الدّور بــ"اللوّاح". والفلاّح الماهر المحنّك يعرف جيّدًا متى يأمر بإيقاف الدّور، فحينما يرى كدس السّنابل التي غطى بها وجه الطرحة في الأول قد تهرّأت تمامًا، وأصبحت كدسًا من التّبن تطلّ منه حفنات القمح الأحمر تذروها حوافر الخيل عندئذ يقول: يا جماعة الطّرحة طابت، حبّس الدّور.
ينتهي مشهد الدّريسة ويأخذ الحاضرون راحةً وجيزةً، يقدّمون فيها بعض العلف لتلك الحيوانات ليبدأ مشهد آخر مع هبوب نسيم المساء المنعش وهو مشهد التّصفية أو الصّفاية، وفيه يقع فصل التّبن عن القمح بالألواح المصنوعة تقليديّا من خشب الدّردار والصفصاف و القِيقَب"بحرفيّة منقطعة النّظير". وفي المساء بعد الدّريسة يقوم الفلاح بغسل خيول الدّريسة بالماء جيّدًا ليزيل عنها ما علق بها من غبار الدّريسة، وهو شديد الأذى لأنّه ينفذ إلى مسام الجلد، وتسمّى هذه العملية بالتّسحيم، فيقال سحّم الزّوايل يعني عرّضها لعملية استحمام كاملة ينتعش بعدها الحيوان أيّما انتعاشة ويستعيد نشاطه وجهده خاصّة بعد أن تُعلّق في عنقه المخلة المملوءة شعيرًا ليعلفها في نهم وزهو.
ثم يقوم الفلاح بتعبئة الحَبّ في أكياس بعد أن يزن ما تحصل عليه بوعاء يسمّى "القَلبة" (بتثليث القاف) أو نصف القلبة. وعادة ما يقوم بهذا العمل ليلاً على ضوء القمر بعيدًا عن أعين النّاس، أو قبل الغروب. ثم ينقل ذلك إلى المخزن ويسمّى المجوار. ويبدأ عمله هذا بسم الله وعلى بركة الله، ويبدأ العدّ بركة عوض واحدة وهكذا اثنان ثلاثة".
وتأخذ النّسوة بعد ذلك في عمليّة تنظيف القمح أو الشّعير وتنقيته من الحصيّات والتّراب وما علق به من أوساخ ثمّ غسله بالماء، وتسمّى هذه العمليّة "التّسويم"، ويقوم الرّجال أو الشّبان بحمل ذلك القمح المنقّى النّظيف على ظهور الخيل والذّهاب به إلى طاحونة القرية أو القرى المجاورة لطحنه دقيقًا بمقابل ماليّ. ثم يعودون به لتصنعه النسوة خبز كسرة أو كسكسًا أومحمّصة حيث تستعين العائلة بجمع من النّسوة اللاّتي يحذقن عملية التّكِسكيس، أي صنع الكسكسي، فتضيّف المساعدات في جوّ تضامني بدون أجرة، وتطبخ لهن وجبة دسمة، وتتعالى الزّغاريد والأغاني احتفالاً بهذا العمل.
وأثناء الليل تقوم ربّة البيت بتخزين الدّقيق في العدايل أو المزاود، والمزود هو وعاء قُدّ من جلود الماعز أو البقر ، فإذا ملئ دقيقًا اتّخذ شكل الحيوان الذي أخذ منه هذا الجلد. وأمّا العديلة فهي مصنوعة من القماش الخشن في شكل كيس كبير وتخزن عولة العام، أي مؤونة السّنة من الحبوب المطحونة فوق السّدة، وهي مصطبة رفعت قليلاً عن الأرض ترصف فوقها المزاود. والسّدة الأكبر رمز المرأة"الفحلة" العاملة المجتهدة. ويستهلك النّاس من ذلك الدّقيق أو الكسكسي والمحمصة والبركوكش طيلة العام حتّى يحلّ موسم الحصاد من جديد.
نـــوران والجدّة
بقلم: فـــــرح الخميري
حلّ الربيع فاكتست الحقول أبهى حلّة زيّنتها الرياحين بكلّ لون وعطّرتها بأريج ينعش الأنفاس. خرجت "نوران" رفقة جدّتها في نزهة إلى إحدى الغابات المجاورة ، وفي الطريق كانت الطفلة تطارد الفراشات التي كانت ترفرف بأجنحتها الزاهية المتألّقة تارة وتقطف تارة أخرى أزهارا يانعة من النرجس والسوسن وشقائق النعمان. الشّمس قد لاحت من خلف الحجب تحاكي عروسا تتبدّى من وراء النقاب. ينبعث نورها فيسحر الألباب فيُخيّل "لنوران" أنها المرايا الصافيات في أطرها أو أحجار الفيروز في خواتمها .فكأنّ الغابة روضة من رياض الجنّة: ماء رقراق ونهر دفّاق، وأشجار وارفة الظلال مثقّلة بالثّمار والغلال، حمائم وأطيار تنشد لحن الوجود في بهاء وجلال، فهي سنفونية الطبيعة في أجمل ألحانها وأجلّ صورها، وكان المنظر فائق الجمال يسحر العيون ويأخذ بمجامع القلوب.
استلقت الجدّة على الحشيش الرّطب بجوار مجرى ماء رقراق يلمع صافيا نما على جوانبه الورد والريحان، لقد تفاعلت الجدّة مع الطبيعة، وانسحبت معها فانعكس ذلك على وجدانها صفاء وفاض روحها وخيالها إبداعا، فدنت "نوران" من جدّتها رويدا وأنشأت تقول بنشوة عارمة تختلج بين الجوانح:
- إنّي ألتمس منكِ يا جدّتي أن تحدّثينني عن ماضيك فأنا راغبة في النّهل من ينبوع تجاربك وطالبة للمتعة، فهلاّ قصصت عليّ أخبار طفولتك ونشأتك الأولى. فرمقت الجدّة حفيدتها بنظرة مخلصة تحوى تعبيرًا صادقًا وتنمّ عن عاطفة مجرّدة لم تلحظها البنت من قبل، وقالت كمن تودعها سرّا دفينا:
- عشت في كنف أسرة فقيرة، فقد توفيت أمّي وأنا في الخامسة من عمري. تعلّمت في الكتّاب وحفظت القرآن وأنا صبيّة، ولكم عانيت قسوة سيّدي شتما وضربا وزد على ذلك معاملة زوجة أبي ذات القلب المتصلّب وتمييزها لأبنائها واختلاق الأكاذيب لإثارة غضب أبي عليّ. وفي هذه الأجواء المشحونة بالتّوتّر والنفاق يموت والدي إثر مرض ألمّ به. وعندما بلغت سنّ الرشد اكتشفت أنّه قد ترك لي قطعة أرض صغيرة كانت ملكا لوالدتي، وقد أهملت هذه الأرض لسنوات عديدة.
بدت على وجه "نوران" مسحة من الحزن وقالت:
- إنّ الشعور بالعجز يعمّق الإحساس بالإحباط ويقضي على كلّ شعلة أمل.
أجابت الجدة بكلّ لطف:
- لقد تسلّحت بالعزم والإرادة والثقة بالنفس للتّغلّب على كلّ العراقيل التي واجهتها وسعيت إلى تحقيق غايتي، فنهلت من العلم وخضت مسيرة دراسيّة كابدت فيها المشاقّ والمعاناة، لكنّها توّجت بشهادة ختم التعليم الابتدائي ثم الثانوي بامتياز وسرعان ما التحقت بالكلّية. وخلال تلك السنوات ضحيت تضحيات جساما، فعملت عملا مضنيا شاقّا وآمالي تحلّق عاليًا في الفضاء في آفاق الحلم. وبعد تخرّجي عرضت قطعة الأرض التي كانت بحوزتي على البنك حتّى أسرّع إجراءات الحصول على قرض وكان لي ما أردت. فاعتنيت بأرضي وأقبلت على العمل فيها بكل صبر وجلد؛ رويتها من عرقي وأخصبتها من جهدي وكدّي، وقد ساعدتني خبرتي في ذلك، فقد كنت طالبة في كلّية الفلاحة وبذلك أصبحت مهندسة فلاحية ماهرة، فتوسّع نشاطي الفلاحي وتحسّن وضعي، وإني أؤكد لك يا بنيّتي أن العلم كان سلاحي فقد أكسبني المال وعلمني حسن التدبير ومثّل سبيلي الأمثل لأتجنّب المآزق وأكسب احترام النّاس لي.
قالت "نوران" في إعجاب وإصرار:
- إنّ هذه الحلول يا جدّتي ناجحة، فأنت مثلي الأعلى في تجاوز كل العقبات التي تصادفنا في درب أحلامنا. قد نعثر ونتعثّر ولكن لابدّ أن ننهض أكثر قوّة وصلابة وعزما على مواصلة المسير، فأنت يا جدّتي حلوة الحديث شيّقة المسامرة، وقورة وحكيمة ذات حنكة كبيرة بالحياة.
فقالت الجدّة بكلّ جدّ:
- إن مشَاعري يا "نوران" تتطهّر بجمال الطبيعة فتلامس سحر الوجود وإكسير الحياة، فكأّنّ تموّجات لذيذة هادئة تهزّني في خضمّ هذا المنظر الطبيعي السّاحر، أخال كلّ ما أراه حولي يشدو بمعسول الكلام حتّى ألفي ذاتي متماهية مع الطبيعة منعزلة في أحضانها موصولة مع الوجود في شفافيّة بهيّة كمقولة الشاعر:
سحر الكون أسمى عنصرا ** أجلّ من حزني وآلامي
غثيان الحلم والمنفى
بقلم: عمر المرسني
كنت قابعًا في تلك العشيّة على مقعد فولاذي بارد، كنت في حالة شرودٍ أراقب بين الفينة والأخرى بضع بطّات وإوزّات، كنّ في حركة دؤوبة، يسبحن جيئةً وذهابًا في حركةٍ سيمفونيّة رائعةٍ داخل المستنقع الذي يتوسّط الحديقة الكبرى للمدينة. وكنت من حين إلى آخر أُسند ظهري قليلاً إلى الوراء وأرفع رأسي في حركة بطيئة ومتثاقلةٍ إلى السّماء الملبّدة بسحب بُنّية كثيفةٍ، وأحاول العودة إلى الذّكريات الجميلة والأيّام السّعيدة وسط الأهل والأحبّة ومناخ البلدة المتناقض؛ سمائه الزّرقاء حينًا الملبّدة بالحزن أحيانًا أخرى.
كان مناخًا على طرفي نقيض تماما كحالتي الآن، حالة تجاذب وصراع رهيبٍ بين رغبة في الرّجوع والعيش على الذّكرى بآلامها الدّائمة ومتعتها التي لا تنضب، أو الهرُوب من الذّكريات ومحاولة النّسيان فيما يشبه الانتحار البطيء والانغماس في الدّراسة بنهمٍ غير مسبوقٍ، الغوص في أعماق الكتب لعلّها تنسيني جرحي النّازف وتشفي نفسي العليلة. كنت أُقبل على كلّ شيء باندفاع ونهمٍ لم أعهدهما فيّ. أصبحت كائنًا آخر غير الذي كنته قبل أشهر قليلةٍ في بلدتي الصّغيرة، على مرمى حجرٍ من الوادي الكبير الذي يشقّها نصفين ليرسم لوحةً ساحرةً بلون الخضرة الدّائمة على ضفّتيه، ويُضفي عليها مسحة جمال فتّان مع انسيابه الهادئ وخرير مياهه الذي لا ينقطع.
كنت كلّما تبّدت السّحب قليلاً وظهرت بين ثناياه زرقة السّماء للحظات رأيت وجهها الصّبوح الباسم في الأفق، آهٍ من هذه النّظرات الحالمة وهي تناديني بلهفتها المعتادة، وأغرق في الحلم هنيهةً ثمّ أصحو على لفحة نسيمٍ باردةٍ تخترق جسدي كالسمّ ورذاذ من المطر على وجهي المتّجه إلى السّماء دائمًا كمن يبتهل إلى اللّه في خشوعٍ غريبٍ، غير مبالٍ بما يدور حوله. كم كانت تبدو جميلةً ومبتهجةً هذه السّماء كلّما تجلّت لي تفاصيل وجهك فيها، برغم كلّ الغيوم ورُكام السّحب الثّقال.
مضت أيّامٌ عديدةٌ وأنا آتي كلّ عشيةٍ إلى تلك الحديقة بحثًا عن وجهك وابتسامتك، وكان شعور اليأس والحزن يلازمني ويفتك بروحي العطشى ويدفعني إلى مزيد الإغراق في الوحدة والانزواء، إضافة إلى تغيّر نمط الحياة وشعور الغُربة الذي لا ينفكّ يمزّق روحي ويحيلها أشلاء بالرّغم من أنّي أسكن مدينة الجنّ والملائكة، حيث لا حديث للنّاس إلاّ عن المتعة واللّهو وعشق غريب وأبديّ للثقافة والفنون. وحدي أنا لازلت أبحث عن نفسي وسط هذا الزّحام الكبير، غربة الرّوح أشدّ عليك أيّها المسكين،نصفك مشلول ونصفك الآخر مفقود.
كان مجيئي إلى هذه الحديقة يخفّف عنّي بعض العناء وكأنّي كنت على موعد معها، ولكنّه كان أيضًا مدمّرًا لحالتي الصحّية التي تراجعت تدريجيًّا مع مرور الأيّام، ولم أعد في ذلك اليوم إلى وعيي إلاّ مع خيوط الفجر الأولى عندما أفقت على عطر الممرّضة الشّقراء يخترق حواسّي،وخصلات شعرها تداعب وجهي، وعلى صوتها وهي تُمسك بيدي وتخبرني بأنّ الإسعاف العاجل قد جاء بي في حالة غيبوبة تامّة من الحديقة الكبرى، وأنّي أشرفت على الموت بعد هبوط حادّ لحرارة الجسم في مساء ذلك اليوم البارد من خريف باريس. تحدّثت إليّ بلطف كبير وأظهرت عنايتها بي، ولكنّها لم تظفر منّي سوى بنصف ابتسامة جهدت في رسمها على شفاهي المتيبّسة. كنت لا زلت أبحث بين الغيوم عن وجه حبيبتي الذي افتقدته لعلّه يدفئ قلبي ويبعث الحياة من جديد في جسمي المتهالك.
إنغريد أو "أونج Ange " كما كنت أناديها بعد ذلك، لم تكن حقيقة بل كانت الشجرة التي أستظلّ بها، وأتخفّى وراءها من هزائمي السّابقة. وكلّ ما حدث بيننا لم يكن إلاّ عبثًا ورغبةً في النّسيان، محاولة بائسة للهروب من الانكسار، وهم أمل للإفلات من الاندثار والتّلاشي بين دروب العشق والهوى. كانت هذه الشّقراء تحرقني وتدفعني إلى المجهول، وكنت لا أملك إرادة عصيانها، حالة من الخدر والاستسلام القسري وجدت فيهما بعض الخلاص لروحي الشّريدة.
اقتربت منّي إنغريد وغمرتني برائحة عطرها، وبعض من خصلات شعرها الذّهبيّ تدلّت على وجهي فأسكرتني، ثمّ همست في أذني: "أريدك أن تُذيب ثلج الرّوح في لهيب اللّمسات، وتُطفئ ظمأ القلب من رحيق الكلمات " قبل أن تكمل البقية في صمت أبلغ من كلّ الآهات.
وكان ما توقّعت أن يكون، كرّ وفرّ ، اهتزّت ورقصت، وكانت مع كلّ ارتعاشة تطلق صهيلها كمن ينشد الخلاص، وكنت مع كلّ رجفة من عقدها الفضّي على صدرها المتورّد يتراءى لي عدْو الخيول تطوي المسافات وتشقّ الصّحاري والوديان، وأكاد أسمع صليل السّيوف على مشارف الحصون والذّكريات.
انقضى كلّ شيء لكن لم تغادرني الذّكريات، أدركت أنّ الهزيمة لم تكن حتميّة وأنّ النّصر كان قاب قهرين أو من قبيل المُعجزات. وعدت أسمع الصّوت نفسَه يتردّد في عناد : " لم يكن سوى نصف انتصار ، فابحث عن الهزيمة بين أرجاء العبرات".
ألتفت إلى الرّكن المظلم في غرفتي الباردة، أسترق النّظر إلى دفتري البنّي القديم، ثمّ أسحب روحي برفق إلى محراب ذاتي، وأغرق مع تراتيل الدّمع في خشوع النسّاك وسكن الأموات.