من وحي الذّاكرة
بقلم: الأمين الكحلاوي
عشنا زمنًا من الدّهر في أواخر السّبعينات وقليل من الثّمانينات لم تُلامسه يد التّقنيات الحديثة كالحاسوب والهَواتف بأنواعها والانترنت، ولا حتى التّيار الكهربائيّ، بل كنّا نستضيء بـ"القَازة" بوضع ثلاث نقاط على القاف أو صنوها "الفَنار". وكانت التّلفزات قليلة جدًّا لا يملكها إلا العُمّال بالخارج تعمل بالبطاريّة التي تُشحن مرّة في الأسبوع بالكهرباء يتمّ نقلها على دابّة في طرق وعرةٍ وثنايَا ملتوية تحفّها الغابات من كلّ ناحية وتشقّها شعاب وأودية لمسافةٍ بعيدةٍ في أحد دكاكين التّجار من قرية وادي المعدن التي تتمتع بالكهرباء منذ الوجود الفرنسيّ .
وكنّا نجتمعُ في بيت من بيوت سُراة القوم الذين يملكون جهاز الشّاشة الصّغيرة باللّونين الأبيض والأسود، فاتحين أفواهنا مشدُوهين ومندهشين ممّا يُعرض وكأنّنا نطلّ على عالم جديد لا قِبل لنا به من قبلُ، فنبقى السّاعة أو السّاعتين لمشاهدة المسلسلات المصريّة وهي تفك شفرة الحياة الجَديدة. وكنا نتطلّع إلى هذا العالم الجديد بكلّ شغفٍ، وبدأت تفعل فينا فعلها وتغيّر من اهتماماتِنا ونظرَتنا إلى العالم، وخاصّة إلى عالم المرأة والأشياء من حولنا. وبدأت تداعبُنا أحلام عجيبةٌ تصنع فينا التّمرد على واقعنا؛ أفرشةٌ وثيرة وألبسة زاهية وزرابيّ مبثوثة وأكواب موضوعةٌ، في مقابل بيت من الطّين وفراش قُدّ من الطبيعة ومقاعد من الخَفاف، وأكواب من الطّست ولغة الحبّ في المسلسلات والأفلام تنقش على صفحات بَراءتنا فصولاً جديدةً من الحياة .
ولم نكن نعرفُ من هذه الجرأة شيئًا، فتقاليد قريتنا وعادات مُجتمعنا وأخلاق أهله لم تكن تَسمح بنشأة علاقات الغَرام، وتحرّم لغة الحبّ والعَلاقات خارج الزّواج، وتجرّم كلّ علاقةٍ مشبوهةٍ، ولم يكن يُسمح للفتى بمقابلة الفتاة لأيّ غرض كان، بله أن يتبادلوا لغة الحبّ والعَواطف.
وممّا أذكره من عادات قريتنا أن تَجتمع بعض الأسر شتاءً خاصّة في بيت من بيوت الجيران للسّمر وسماع الأحاديث والقِصص تُروى فتمتع على أنغام برّاد الشّاي الذي توسّط الكَانون مشنّفًا أنفه ينفثُ بُخاره زهوًا وخُيلاء كأنّما يطرب لسماع أحاديثنا، حتّى إذا انبعثت رائحتُه الزّكية سارع القوم لتفقّد أكوابهم التي تبعثرت هنا وهناك لملئها شايًا، ولتستريح بعد ذلك تلك البَراريد ما شاءت لها أن تستريح في رمادها حتّى الصّباح، وقد جاورتها بعض القطط بحثًا عن الدّفء.
تلك اللّيالي الملاح لن تُنسى من الذّاكرة، فقد أشبعنا حكايات وأساطير نجد لها اليوم صدًى في وسع خيالنا وسيولة أقلامنا، وكنّا نكنّ لكبار القوم كلّ الاحترام والتّوقير، ولا نرفضُ لهم طلبًا، فهم الذين نلتجئ إليهم عند الخُصومات ونستشيرهم عند الملمّات، وما يهمّ من الأمور كالزّواج والختان والخطوبة والبُيوع وغيرها ...كنّا مجتمعًا واحدًا متضامنًا يسعى البعض لمساعدة البعض، ولا نألو جهدًا في مد يد المساعدة لمن يطلبها. وممّا أذكرُه في هذا الشأن "المَعْونة" عند دراسة الحبوب صيفًا، فيجتمع الشّباب عند أحدهم ويتنافسون مجانًا لخدمته، أو نهرع مسرعين لمن يعتزم بِناء بيتِه فنتعاون جميعًا ونتناول بعد ذلك وجبة الكُسكسي وكلّنا بشر وسرور باكتمال ذلك العمل .
أمّا إذا قدم العِيدُ فوا فرحتاه، فهي أيّام زيارة الأقارب والأصدقاء وتبادل التّهاني. ومن عادات أهل قريتنا أنّهم دأبوا منذ سنين على الاجتماع يوم العِيد في مكانٍ مفتوحٍ خصّص لذلك حيثُ يأتي كلّ قادم بما لذّ وطاب من الأطعمة والأشربة ويسلّم كلّ منّا على أخيه، ويتصالح المتخاصمون، ثمّ ننطلق جميعًا نزور أهل الدّوار بيتًا بيتا لنهنّئهم بالعيد. وكم كانت جميلة تلك الأيام لما حملته من بشاشةٍ وسرورٍ، ولما خلّفته فينا من حبّ أهل القرية لبعضهم البعض .
تغيّرت الأحوال وتبدّلت ظُروف الحياة، وتطوّرت الشّعوب، وتلك سنة الله في كـــونه وفي إطار هذا المسار أقف عند مرحلة الدّراسة في السّبعينات والثّمانينات متأمّلاً ومسترجعًا لبعض ما بقي مؤثرًا في الذّاكرة، من ذلك تلك المسافة البعيدة التي تبلغ تقريبًا ما يُناهز الأربعة أميال، كنّا نقطعها مشيًا على الأقدام ذهابًا وإيابًا التزامًا منّا بضرورة التّعلّم والتّرقي رغم أمية جلّ آبائنا وأمهاتنا، ورغم الخصاصة والفَقرِ . ولم تكن وسائل المعرفة آنذاك متاحةً لنا مثل ما هو الحالُ اليوم، ولا المرافق متاحة فلا كهرباءَ ولا ماءَ إلاّ ماء العين مُلتقى نساء القَرية ومعين أخبارهم
تطلّ صباحًا من أمام الكوخ لترقب أقرانَك يُهرولون نحو المدرسة خشية فوات الوقتِ وقد احتمى الصّغير منّا بالأكبر منه سنًّا، ولم تكن الفروق الاجتماعية تفصل بيننا كثيرًا فقد كنا تقريبًا من المستوى الاجتماعي نفسه، ولم تكن البدلات والثّياب التي نحتمي بها من القرّ أو الحرّ من اهتماماتنا، بل لم نكن نقدر على شراء غيرها، فالجديد عندنا هو ما يقدّمه المعلم من معارف. وكانت كل أيام السّنة عندنا متشابهةً، لم يكن يقطع رتابتها سوى قدوم العيدين الصّغير والكبير .
وفي طريقنا عند العودة من المدرسة يتحسّس كلٌّ منا ما تبقّى من كسرة خبز في"الفيليّة "، وهي من بلاستيك مُعدّة أساسًا لتحمل الخضر، وإن لم يجد كان يسأل بعضنا البعض لقمة يسدّ بها رَمَقه فنقتسِمُ ما تبقّى وما نملك بكل محبّة ووئام وعطفٍ. وممّا أتذكره حرص معلّمينا على تعليمنا، وقد أبلوا البَلاء الحَسن، ولم يدّخروا جهدًا في بذلِ ما يَستطيعُون من أجلِ إنارة عُقولنا البريئة. أذكر منهم سي مصطفى وسي محمد الأرناؤوط وسي محمّد الصّالح وسي صالح الفزعي... ولم نكن نتغيّبُ عن الدّراسة مهما كانت أحوال الطّقس، فكنّا نجتاز الأودية والمجَاري المائيّة وقد طغى عليها الماء ولا نُبالي بالأخطار ولا الأمراض. وكانت الثّلوج والأمطار تأخذ من أجسادِنا الضّعيفة فتتجمّد أطرافنا من شدّة البرد القَارس، ولم نعد نقدر على الكِتابة إلاّ بعد أن يأمر المعلّم بِفركِها وتَحريكها حتّى يَسري فيها الدّم. فالسّخانات في ذلك العهد بعيدةُ المنال.
وممّا أتذكّره تلك الفترة العصيبة التي عِشنَاها بين الخوفِ والتضرّع لله بسبب الرّجّات الأرضيّة المتتالية، فكانت كلّما سمعنا دوي الرّجة خَرجنا من القسم مُسرعين نحو السّاحة خشية وقوع السّقف علينا، فالبناية قديمة ومتداعية والمدرسة الابتدائية بوادي المعدن بناها المُستعمر مغطاة بالقصدير.
وعند عودتِنا إلى بُيوتنا كنّا نتّخذ من الأرض مهادًا ومن السّماء لحافًا وغطاءً، ولم يكن أحدٌ من الجيران يجرؤ على المبيت داخل كُوخه لتتالي الرّجّات، بل كنّا نستهم من منّا يَدخل بسرعةٍ ويأتي بما يلزم لطهيِ الطّعام أو بعض الحاجيات، فكنّا نحدّد المطلوب ومكانه قبل الدّخول ونلجُ المنزل خائِفين ونَخرج منه مُسرعين وقد خَلا من الأبواب سوى بعض الأعواد يُطلق عليها اسم الزّفاف، ولا تسمع في تلك اللّيالي إلاّ تضرّع المتضَرّعين بأصوات عالية لله ربّ العَالمين، ولا يشقّ صمت اللّيل إلاّ نباح الكِلاب تَستشعر قدوم الرّجّة .
بين الكتابة والعشق
بقلم: د. منجي الأشعاب
أن أكتب هو أن أزيل عنّي وجعَ ذاكرةٍ،
ولكن إلى من سأكتب وماذا سأكتب؟
وأعلم أنّ كلّ كتابة هي احتراقٌ ونزيف.
احتراقٌ لكينونة، أو اِندثار، وموت،
أو نزيف، فولادة وانبعاث.
قرّرت أن أهجر الذّاكرة بنزيفٍ من الحِبر ، وأن أحرق تاريخًا من الذّاكرة لعلّها تصطفي من الموت ولادة.
مازلتُ أدغدغ ذلك الصّمتَ ببعضٍ من الكبرياء،
وأبحث بين ثناياه عن سبل سويّة لتاريخ مخضبٍ بدماءِ العشق والحقد.
لعلّ الموت يلقفني من ذلك الوجع فأكفّ عن نزيف الكِتابة،
ولكن ها هُو يدفعُني إلى صراعٍ جنونيّ،
لا أحدَ بإمكانه أن يتجاوز ألما محتومًا، ولا أحد أيضًا بمقدوره القطع مع ذاكرةٍ أهدت له الجُنون.
الموت والعشق سيّان، مُفضيان إلى الفَناء.
أن تموت هو أن تَنسحب من شرارة الحَرب، فيفنى فيك الجَسد دُون الرّوح،
لكن أن تعشق هو أن تهب رُوحك تاجًا لمن تحبّ ولمن تعشق، فتحيى فيك الرّوح.
أن أكتب هو أن أولد بين ثنايا السّطور، وبين خفايا الحُروف.
أن أعشق هو أن أفني وجعًا ألمّ بي .
نوّالة جدّتي
بقلم: نبيل الصّالحي
أحيانا تحسّ أنك لا تُشبه أحدًا، ولا تُشبه حتى نفسك ...
تحسّ بأنك غريب عن هذا العالم الغامض،
تحسّ بتفاهة الحياة وسذاجة الواقع،
تحسّ بسراب التطوّر الكاذب،
تحسّ بأنّك تعيش في عصر تطوّرت فيه التّكنولوجيا وتقلّصت فيه القيم الإنسانية !
عصر التكنولوجيا الذّكية والعقول الغبيّة !
واقع مشوّه كجلّاد يقودنا قهرًا إلى زنزانة العزلة والانطواء ...
أحيانا يُحس البُلبل أن نوّالة وبرّاكة وڨُربي الماضي فضاء واسع وقصور الحاضر ضيّقة جدّا!!!
يُحسّ بأنّ معادلات حساب المساحات والمحيط والأحجام تتطلّب إعادة نظر !
فقريتي الصّغيرة مثلا أراها أكبر من العالم، وكوخ جدّتي أكبر وأعلى من أبراج العرب وناطحات سحاب الغرب !
وجدّتي رحمها الله، القصيرة النحيفة، الظّريفة، اللّطيفة، خفيفة الرّوح، أراها أكبر من بُناة الأهرام وعمالقة الزمان !
يتساءل البُلبل، كيف لتلك الجدّة النّحيفة الضّعيفة أن تحلب وتطبخ وتكنس وتنظّف وتغسل وتعجن وتحمي الڨوجة، وتنصب الكانون وتزرع وترحي القمح وتجلب "جولڨ" الحطب وتنقل الماء وتساعد كقابلة توليد، وتهتم بالبقر والغنم والماعز والقطط والدّجاج والبشر والحجر والشّجر، وتصلّي صلاتها في وقتها وتعمل في اللّيل كمروضة للأطفال تقصّ لنا أجمل القصص عن الجازية وذياب وعن ولد السّلطان والحنش بو 7 روس، وتمزج القصص بالغناء وتختم القصّة بعبرة عن الصّدق أو الشجاعة أو الشّهامة، ثم تُطالبنا بأن نوحّد الله ونُشهّد وننام؟
يتساءل البُلبل كيف يُحس بالاختناق داخل غرفة واسعة شبابيكها الكبيرة تفتح من كل الجهات على الطبيعة؟!
كيف لا يدخل النّور إلى غرفة مفتوحةٍ؟!
يتساءل البُلبل كيف لتلك النّوالة الصغيرة أن تتسع لذلك الكمّ من النّاس ؟!
كيف لذلك الشبّاك الصغير (الطّاقة) أن يُدخل ذلك الكم الهائل من النور والأكسيجين ؟!
كيف لتلك "التاڨيدة" أن تتحمّل ذلك السّقف المغطّى بالثلوج ؟!
يتساءل البلبل كيف لذلك الكانون الصغير أن يجتمع حوله الصّغار والكبار ؟
كيف لذلك الحصير اليابس أن يمنح النّعومة والدّفء ؟
كيف لتلك "المڨارض" أن تَصلح للجلوس لساعات دون ألم!
كيف لتلك "الشّكوة" أن تصنع كل تلك الزّبدة؟
وكيف لتلك "الڨِربة" أن تحفظ الماء ؟
وكيف لا تفسد الزّبدة داخل البوش الصّغير ؟!
وكيف لذلك السّقف من القشّ و"الدّيس" و"الفرسيڨ" أن يتحمّل أطنانًا من ثلوج الشّتاء؟!
وكيف يجتمع القطّ والكلب والدّجاجة وصوصها، والبقرة والبشر تحت سقف واحدٍ في تناغمٍ وانسجامٍ وحبّ ووئام؟!
كيف لتلك "الڨازة" السّوداء يدويّة الصّنع أن تصنع ذلك الكم الهائل من الطّاقة الضّوئية !!!
كيف لتلك "الصفَّة" أن تتحمل ذلك الكمّ الهائل من الأواني الخزفيّة التي تصنعها جدّتي من طين الغار الممزوج بالتفُّون ؟!
كيف لتلك الرّحى من الحجارة أن تعطينا أجود أنواع الدّڨيڨ ؟!
كيف لذلك الطاجين الأسود أن يصنع تلك "الفطير" الشّهية و"الملّة" الشهيّة ؟
كيف لتلك "الڨوجة" أن تصنع كسرة لم أذق أجمل منها في حياتي حتّى في أرقى مخابز الوطن ؟
كيف لتلك "الڨدروشة" أن تُحافظ على توازنها فوق "المناصب" و"الجدور"، وكيف لها أن تُطعم ذلك الكمّ الهائل من سكان النّوالة والجيران وعابري السّبيل ؟!
كيف لذلك الحائط من التّراب أن يتحمّل لسنوات وسنوات الهزّات الأرضية والرّياح القويّة والثّلوج والأمطار وحرارة الصّيف المرتفعة ؟!
ربّما ينجح كلّ ذلك لأنّ جدّتي لا تتساءل كيف لذلك كلّه أن يكون لأنها تسكن تحت رحمة من يقول للشّيء كن فيكون.
لأنّ النّور داخل النوّالة ليس نور الشّمس بل نور الله الحيّ القيوم.
نور القرآن الذي يُتلى ليلا ونهارًا داخل النوّالة "فوق السدّة.
نور سجّادة الصلاة.
نور الحمد والشكر والتّسبيح والاستغفار..
نور القلوب الصّادقة، نور البساطة، نور الإيمان، نور الحبّ والأخوّة، نور صلة الرّحم، نور القناعة والإيثار...
نور يحلّها ربّي، خلّيها على ربّي، ربّي يسترنا، ربي نوّاب كريم، نور "اللّي يتوكّل على ربي ما يخيبش".