تاريخ

احتلال غارالدّماء   والكاف وموقف الأهالي

        

بقلم: مصطفى الستيتي

نظرًا لوجود منطقة غارالدماء على الحدود التّونسية الجزائرية فقد كانت عرضة منذ وقت مبكّر للتحرّشات والاعتداءات الفرنسيّة. فمنذ احتلال فرنسا للجزائر في عام 1830م كانت فكرة الامتداد نحو البلاد التونسيّة هاجسا ملازما للفرنسيّين من أجل ضمان وجودهم في " الجزائر الفرنسية" كما كان يُتداول في تلك الفترة لدى السّاسة والإعلاميّين الفرنسيّين. وكانت فرنسا تهيّء الوضع وتبحث عن الذّرائع والمبرّرات التي تخوّل لها التمدّد نحو الجارة الشرقيّة. غير أنّ قوى إقليميّة ودوليّة كانت لها بالمرصاد، ولم تسمح لها بتحقيق أهدافها إلا في عام 1881م. وفي هذه الدّراسة سوف نتناول بالبحث طبيعة الوضع الدّولي قبيل الاحتلال الفرنسي للبلاد التّونسيّة، والأسباب التي منعت الدّولة العثمانية من التّدخل لمنع هذا الاحتلال، كما سندرس المبرّرات التي ساقتها فرنسا في هذا الخصوص. ومن جانب آخر سوف نتحدّث عن الكيّفية التي تم بها احتلال الشّمال التّونسي، كما سوف نسلّط الضوء بشكل أكبر على احتلال غارالدّماء وموقف الأهالي من الاحتلال.

الوضع الدّولي قُبيل احتلال البلاد التّونسيّة 

إنّ نتائج مؤتمر برلين الذي عقد في صيف عام 1878م بالنّسبة إلى الدّولة العثمانية كانت مؤشرًا خطيرًا على مستوى التّراجع الذي بدأت تشهده الدّولة سياسيًّا وعسكريّا وجغرافيّا. وقد أثبتت الوثائق أن مؤتمر برلين تضمّن بنودًا سرّية تهدف إلى اقتسام أراضي الدّولة العثمانيّة بين القوى الكبرى. وقد كان تخطيط فرنسا لاحتلال البلاد التّونسية قد بدأ قبل معاهدة برلين، لكنّ تحرّكها ازداد قوة وزخمًا بعد أن اطلعت فرنسا على مواقف الدّول العظمى.

فقد صرّحت ألمانيا لفرنسا أنّها لا ترى أيّ مانع في أن تحتلّ تونس، والأمر نفسه بالنّسبة إلى انكلترا وروسيا، بينما وجدت إيطاليا نفسها مضطرّة للانصياع للأمر الواقع وقبول ما ستسفر عنه التّطورات اللاحقة خاصّة وأن الإشارات وصلتها بأن طرابلس الغرب يُمكن أن تكون من نصيبها في وقت لاحق عندما يتهيأ الظرف المناسب لذلك.

وبعد أن أدركت فرنسا أنّ الوضع الدّولي يسير لصالحها سيّرت جيوشها في شهر أفريل من سنة 1881م نحو البلاد التّونسية تحت ذرائع وحجج واهية أهمّها محاربة عشائر خمير ووشتاتة على الحُدود التّونسية الجزائرية، وتبيّن بسرعة أنّ هدفها قصر باردو وليس كما زعمت القضاء على "الإرهاب" في الحُدود التونسيّة.

شيطنة خمير و وشتاتة قبل الاحتلال 

عمل المسؤولون الفرنسيّون وكذلك الصّحافة الفرنسيّة، قبل احتلال البلاد التّونسية عام 1881م على رسم صورة قاتمة ومخيفةٍ بخصوص قبائل خمير ووشتاتة التّونسيّة التي تتمركز أساسًا في المناطق الحدود التّونسية الجزائريّة. وقد حفلت الصّحف الفرنسيّة بمقالات كثيرة تؤكد أنّ هذه القبائل تتميز بالتّوحش والسّرقة وقطع الطّرق وغيرها من الأوصاف. وكان الهدف من وراء ذلك هو تهيئة الرأي العام الأوروبّي والفرنسي بوجاهة التّدخل الذي سيتمّ ضدّ هذه القبائل من أجل "تأديبها" وردعها كما كان يُقال باستمرار، خاصة وأنّ سلطات الباي في تونس لم تكن قادرةً على القيام بهذه المهمّة.

 

ونورد هنا مثالاً على ذلك من مقال نُشر في صحيفة لابراس La Presse الصّادرة بتاريخ 7 أفريل سنة 1881م. فقد حذرت الصّحيفة من أنّ الأمن منعدم في مناطق واسعة وممتدة على الحدود مع تونس بسبب عمليّات النّهب واللّصوصيّة لعشائر خمير، وذكرت بأنّ هذه القبائل تعيش في استقلال كامل، وفرق الجيش التّابعة للباي في تونس لم تتمكّن قطّ من الدّخول إلى مناطقهم. وفي كلّ مرّة ينطلق منهم مُجرمون يبحثون في الأراضي الجزائريّة عن الثّروة فينهبون ويقتلون كلّ من يتصدّى لهم أو يحاول صدّهم ومنعهم من الاستيلاء على مواشيهم. وبسببهم لا تكاد الدّماء تتوقّف عن السّيلان.

 

وحتّى الجنود الفرنسيّون المتمركزون على الحدود، وكذلك في منطقة الطّارف وبوحجار بالجزائر أعدادُهم غير كافيةٍ لصدّ المخاطر. والأمر نفسه بالنّسبة إلى الجنود الموجودين في عين قَطّار، فلا قدرة لهم على مواجهة مسلّحي قبيلة وشتاتة، و"هي قبيلة أخرى بربريّة موجودة في الجنوب من خمير، وهي تعمل معها بشكل مشترك".  

 

وقالت الصّحيفة إنّ قبائل خمير ووشتاتة لا تنصاع بسهولة ولا تتخلّى عن النّهب واللّصوصية بواسطة فرقٍ عسكريّة صغيرة. فهذه القبائل تجرّأت وتجاوزت الحدود الجزائريّة، وهَجمت على القبائل الجزائرية واشتبكت معها، ولذلك فقد طفح الكيل ونفد الصّبر ولابدّ من الحسم مع "قُطّاع الطّرق" هؤلاء.

 

وتشير الصّحيفة إلى أمر مهمّ وهو أنّ معركة الجيش الفرنسي ليست مع باي تونس كما قَد يعتقدُ البعض بل معركته مع أناس "متوحّشين" يرفضون دفع الضّرائب للخزينة التّونسيّة منذ القديم، ولا يسمحون للمسؤولين التّونسيين بدخول مناطقهم، بل إنّهم أطلقوا النّار على من تجرّأوا وجاؤوا إليهم طالبين دفع الضرائب، وتمّ طردهم وردّهم على أعقابهم. ثم قالت الصحيفة "نحن لن ندخل في مواجهة مع باي تونس بل مع تونس المستقلّة، تونس التي هاجَمتنا في عقر دارنَا، وهي تحتاج أن نلقّنها الدّرس".

 

وتعترف الصّحيفة بصعوبة المهمّة التي ستقدم عليها القوات الفرنسيّة في هذه المناطق، وقالت "إنّ الغزو الذي سننفّذه ضدّ عشائر خمير عمليّة جدّية وصعبة، وسوف نتحرّك في مناطق جبليّة مجهولة بالنّسبة إلينا، والعدوّ من سُكان الجبال وهو متمرّس على القِتال، ونحن لا نستطيع تقدير عدده بدقّة لكن عدد ما يملكه من بنادق لا يقلّ عن 20 ألف قطعة، أضف إلى ذلك أنّ عناصره مِقدامون ومسلّحون بأسلحة أوروبية جيدة".

 

ويورد أرستيد لوتُورنو المعلومات التّالية عن قبائل وشتاتة في تقريره الذي أعدّه عام 1881م، وهي معلومات تتطابق مع ما رأيناه عن قبائل خمير، ولا تختلف عنها في شيء " Bulletin de la médecine et de la pharmacie militairesيسكُن المنطقة الجبليّة للرّقبة[2] قبائل وشتاتة وقبيلة المراسن، وتاريخ وشتاتة أكثر اِضطرابًا من القبائل الأخرى، وقد عُرفت هذه القبائل بعمليات السّرقة واستعمال السّلاح، والتّعدي على القبائل المجاورة وسرقة المواشي، وهي من الأشياء المألوفة قبل حلول الحماية. فهي في حالة تمرّد دائمة ضدّ سلطة الباي برفضها دفع المجبى. وأهاليها يحتضنون كلّ المارقين عن القانون سواء من تونس أو من الجزائر. وقد رفعوا السّلاح ضد فرقنا سنة 1881م واتّحدوا مع قبائل خمير، لكن مدفعيّتنا أذعرتهم فطالبوا بالأمان فاستُجيب لهم"[3].  

 

لقد عملت الخطّة الإعلاميّة الفرنسيّة على تحقيق ثلاثة أهداف؛ الهدف الأول كما ذكرنا سابقًا هو تهيئة الرأي العام الأوروبي والفرنسيّ، والهدف الثّاني هو تهيئة القوات الفرنسيّة نفسيًّا وتحفيزها للضّرب بقوّة عند تنفيذ الهجوم، والهدف الثّالث وهو مهمّ جدّا كذلك، وهي رسالة موجّهة إلى الدّاخل التّونسي وإلى السّلطة التّونسية بشكل خاص وتتمثل في طمأنة والي تونس في ذلك الوقت محمد الصّادق باي وإقناعه بأنّ الجهود الفرنسيّة تصبّ في مصلحته بما أنّ السّلطة التّونسية غير قادرة على ردع هذه القبائل وتأديبها. ففرنسا لن تقاتل تونس "الهادئة" بل سوف تقاتل "تونس المستقلّة" كما ورد في الصّحيفة، أي القسم المتمرّد من التّونسيّين.

 

اِحتلال الكاف وغَارالدّماء 

 

يبدو أن أهالي غارالدّماء كانوا على علم بالهُجوم الذي كانت القوات الفرنسيّة تعتزم شنّه على البلاد التّونسيّة، ولذلك ساد جوّ من التّوتر والانتظار بين الأهالي، بل لقد حدثت هجمات على سكّة الحديد الرّابطة بين تونس وغارالدّماء. فحوالي العشرين من شهر أفريل وقع هجوم على رئيس فرقة من قبل أربعة أشخاص عرب، غير أنّ جروحه لم تكن خطيرة. كما تمّ العثور كذلك على كُتلة حجر تزن 87 كيلوغرامًا موضوعة وسط سكّة الحديد بضع دقائق قبل مرور القطار. وبسبب ذلك حُرّر تقرير ووُجّه إلى الوزير الأكبر مصطفى بن إسماعيل في تونس العاصمة في شأن هذه الأعمال التي اعتبرتها فرنسا أعمالاً مؤذية وتخريبيّة.

 

وقد ردّ الوزير بفتح بحث للعثور على الجُناة وإيقافهم، وأمر بتركيز ثلاث نقاط حراسة في كلّ واحدة منها شاوش يتولّى الإشراف على عشرة فرسان خيّالة، الأول بطبربة، والثّاني بمجاز الباب، والثّالث بوادي الزّرقاء للقيام بحراسة نشيطة وصارمة.

 

وفق ما ذكرت صحيفة لا لانتارن (La Lanterne) الفرنسيّة في عددها رقم 1463 والصّادر بتاريخ 23 أفريل 1881م فإنّ الأخبار القادمة من غارالدّماء تفيد بأنّ القُوات الفرنسيّة متمركزة على بعد ستّة كيلومترات من الحدود التّونسيّة الجزائريّة، وهذا يعني أن الاستعداد كان جاريًا على قدم وساق لاجتياح المنطقة. غير أنّ احتلال غارالدّماء لم يتمّ إلاّ بعد دخول مدينة الكاف يوم 26 أفريل.

 

في هذا التّاريخ زحف الجنرال لوجيرو (Logerot) في كتيبة تضم 35000 رجلاً على الكاف، وعلى سوق الأربعاء في 29 أفريل، وزحفت كتيبة دالبارك على طبرقة في 26 أفريل. وفي حين فُتحت أبواب الكاف بسهولة بفضل التّمهيد الذي قام به قدّور الميزوني[4] شيخ الطريقة القادريّة وبرنار روي منذ كان مديرًا لمكتب الاستعلامات هناك، فإن الإنزال العدواني على ميناء طبرقة واجه معركةً عنيفةً أبلت فيها قبائل خمير البلاء الحسن. فلم تحتل عين دراهم إلا في 11 ماي وباجة في العشرين منه. 

 

وقد استسلمت العشائر للجنرال لوجيرو قائد القوات الفرنسيّة في جهة الكاف. والأمر نفسه حصل مع رؤساء اثنتين من العشائر المسيطرة على المناطق الواقعة بين سوق الأربعاء والكاف وهما عشيرتا "أولاد سديرة" و"حكيم" كما أعطوا لوجيرو موثقًا بالالتزام بتعليماته[5]. 

 

وقد أعلن الجنرال "دو كُولونج" القائد العسكري بالكَاف أنّ وضعه هادئ ومستقرّ، وهو يترقّب مزيدًا من التّعزيزات، وأنّ الحالة الصّحية لفرقه العَسكرية ممتازة، وهي مخيّمة قرب مجاري الميَاه وبجوار سور القَصبة، وأنّ رُماة المدفعيّة قد أفرغوا المَدافع الّتي شَحنها التّونسيّون من ذخيرتها قَبل اِستسلامهم، وأن جنديًّا من الفرقة 83 قد طعن بخنجره مُواطنًا لمّا حَاول التّدخل والسّعي لتَسريح المسَاجين. ولقد حمّل العقيد "دُو كولانج" المسؤولية لكل "دَوّار" في مسألة استتباب الأمن والحِفاظ على خطّ التّلغراف والطّريق[6]. 

  

الجنرال لوجيرو Logerot يحتل مدينة الكاف في 26 أفريل 1881م.

 

أما غارالدماء فقد تم اجتياحها والاستيلاء عليها في بداية شهر ماي من قبل فرقة يقودها الجنرال "دو بريم" (de Brem)، وقد قَدمت هذه الفرقة يوم 2 ماي[7] عبر مركبات من جهة سوق أهراس واستولت على محطة القطار، حيث وصلت مقدّمة الفرقة ثم بعد ذلك تعزّزت بمزيد من الجنود [8]. وقد وصلت أخبار من غارالدّماء يوم 1 ماي تُعلن عن وقوع مَعركة مُسلّحة وساخِنة بجهة وشتاتة، وأنّ رئيس مركز البَريد المقيم بغارالدماء أشعر الإدارة بعدم قدرته على حِماية هذا المرفق ومُوظّفيه، وذلك نظرًا للتّهديدات الصّادرة عن 400 إلى 500 مواطن متمركزين بالتجمّعات السّكنية المجاورة للمركز، ولذا فإنّه يتعيّن على هؤلاء الأعوان حَزم أمتعتهم ولوازمهم والرّحيل إلى سوق الأربعاء[9]. 

 

وجدير بالذكر أنّه تم إعادة إحدى بطاريتي المدفعيّة اللّتين تمّ تركيزهما في الكاف عند احتلاله يوم 26 أفريل 1881م إلى سوق أهراس، وذلك من أجل إدخالها إلى غارالدّماء عندما تصل إليها التّعليمات بذلك. لكن على عكس الطريق الرّابطة بين سوق أهراس والكاف التي كانت مهيّأة فإنّ الطّريق بين سوق أهراس وغارالدّماء لم تكن كذلك، ويتعيّن إنفاق كثير من الجهد والوقت لإصلاحها حتى تسمح بمرور البطاريّة. ولذلك فقد احتاجت عناصر الجيش الفرنسي لمدة ثلاثة أيام لكي تتمكن من نقل هذه البطارية وعدد من العربات العسكرية الأخرى إلى غارالدّماء عبر ممرّات صعبة ومنحدرات ومرتفعات خطيرة، فلم يتمكن الجيش الفرنسي من إيصال البطاريّة والعربات الأخرى إلى غارالدماء إلاّ في الخامس من شهر ماي على السّاعة التّاسعة والنّصف صباحًا بعد عمليّة شاقّة شارك فيها العشرات من الجنود بخيولهم[10].   

 

وبعد أن استتب الأمر في غارالدماء للجنرال "دو بريم" ومن معه من كبار المسؤولين العسكريّين أعطى الأمان لعشائر وشتاتة الثّائرة[11]. وتجدر الإشارة إلى أنّ عددًا من الثّوار من أهالي وشتاتة الذين رفضوا التّدخل الفرنسي تمّ اعتقالهم ونفيهم إلى جزيرة سانت مارغريت[12]، وظلوا هناك بضع سنين. وعندما رجعوا وجدوا زوجاتهم قد تزوّجن رجالاً آخرين. وهذا يدلّ على حجم المعاناة التي تعرّضت لها هؤلاء النّسوة بحيث لم يكن بوسعهن الانتظار لأنّه لم يعد يُوجد من يكفلهن ويعولهنّ. 

  

سُجناء من قبائل خمير في جزيرة سَانْت مارغريت الفرنسيّة.

 

ومن الطّبيعي أن يصف الفرنسيّون أهالي وشتاتة وأهالي المناطق المجاورة لها والتي رفضت الاحتلال بهذه الأوصاف المُغرقة في السّلبيّة لأنهم كانوا يرفضون الخضوع لإرادة الفرنسيّين، كما أنّهم واجهوا بقوة المحتلّ الفرنسي عندما اجتاح الأراضي التّونسيّة. فالمحتل الفرنسيّ لم يرض عنهم لطبيعتهم الشّرسة ورفضهم الانصياع لإرادته. وبعد بسط الاحتلال سيطرته على المنطقة بالقوة وإخضاع جميع القبائل زعم الفرنسيّون أن " أهالي وشتاتة أصبحوا يتميّزون بالهدوء، وهم يدفعون الجباية والمستوى الأخلاقي عندهم تحسّن بشكل كبير" .

  

عدد من جنود الاحتلال الفرنسي وسط مدينة الكاف في بداية القرن العشرين.

  

المصادر والمراجع

 

التليلي العجيلي، الطّرق الصّوفية والاستعمار الفرنسي بالبلاد التونسية (1881-1936م)، منشورات كلية الآداب بمنوبة، تونس 1992، ص. 116-117.

 

صحيفة لابراس الفرنسيّة (La Presse) ، العدد 112 الصّادر بتاريخ 22 أفريل 1881م.

 

صحيفة لانترانزيجان ( L'intransigeant)، العدد الصّادر بتاريخ 3 ماي 1881م.

  

Bulletin de la Médecine et de la Pharmacie Militaires, No: 285, Octobre 1881.

 

صحيفة لو بُوتي باريزيان (Le Petit Parisien) ، العدد الصّادر بتاريخ 2 ماي 1881م .

 

صحيفة لوفيغارو Le Figaro) )، العدد الصّادر بتاريخ 10 أفريل 1881م.

 

Revue d'artillerie, (Avril-Septembre 1882), dixième année, Tome XX, Paris 1882, p . 316.

 

صحيفة لا لانتارن (La Lanterne)، العدد 1475 الصّادر بتاريخ 5 ماي 1881م.

 

Aristide Letourneux, Rapport Mission Botanique en 1884 ( Nord , Sud et Ouest de la Tunisie ), Hachette 1887, p.28.

 

 Affaires de Tunisie 1870-1881, Imprimerie Nationale, Paris p. 311.

  

الكــاف: آثار تتحدّث 

 

 

 

بقلم: بوجمعة الفيالي

 

جاء في مقال منشور في صحيفة " لاديباش تونيزيان " بتاريخ 15مارس سنة 1896م موضوع يتحدث عن منطقة الكاف، وذكر المقال أنّ مدينة الكاف مشيّدة على سفوح هضاب حجريّة مرتفعة، وهي تشبه كثيرًا مدينة قسنطينة الجزائريّة، من ناحية بنائها في الأوعار والتصاقها بالمرتفعات الجبلية.

 

وكلمة "الكاف" في لهجتنا العامّية المتداولة تعني الصّخرة الضّخمة والمرتفعة، مثلما أطلق اسم "كاف النّقشة" بتثليث القاف و"كاف النّسور"، و" كاف الخيال " و"كاف الأضباع"، وهي أسماء كيفان (جمع كاف) استحضرتها من جبال وغابات جهة "منقار البطّة" غارالدّماء.

   

1- الموقع الجغرافي 

 

أمّا مدينة الكاف، عروس الشّمال الغربي التّونسي كما يطلق عليها،فهي أشهر من نار على علم. كانت الكاف قديما تسمى "سيكّا فينيريا" (Sicca Véneria ) ، وهي مشهورة بمعالمها الأثريّة المتعدّدة والضّاربة في التّاريخ، مثل: "معبد فينيس" والكنائس القديمة، ورباطها الصّلب . وقد كتب "صُولن" ( Solin ) أنّ تأسيس الكاف كان على أيدي "سيسيليين" من أصل فينيقي أساسًا. وفي الحرب البُونيقيّة الأولى التي اِندلعت بين قرطاج وروما، فإنّ القرطاجنّيّين قبضوا على جميع المرتزقة الثّائرين ضدّهم والمتحالفين مع الرّومان، ليتمّ عزلهم وإخراجهم من الكاف ونفيهم، وهذا ما أكّده لنا الكاتب الرّوائي الفرنسي : " قيسطاف فلوبار " في كتابه: "صالامبو".

 

والجدير بالإشارة أنّ الحروب البونيقيّة الثّلاثة قد دارت رحاها بالشّمال الغربي، أي الجهة الشّرقية للبلاد النّوميدية، كما كانت تسمّى،وهي منشأ ومسقط رأس قادة جبابرة، خلّد التّاريخ أسماءهم بحروف من ذهب، نذكر أشهرهم : "ماسّينيسّا" و"سيفاكس" و" يوبا الأول" و" يوبا الثّاني" و" يوغرطة البربَري".

 

 2- البربر في نظر ابن خلدون

 

جاء في كتاب : تونس عبر التّاريخ، للأستاذ أحمد بن عامر  أنّ ابن خلدون وصف البربر بأنّهم "جيل عزيز على الأيّام، وأنّهم قوم مرهوب جانبهم، شديد بأسهم، مضاهون لأمم العالم. ووصف أخلاقهم قائلاً: وأمّا تخلّق البربر بالفضائل الإنسانيّة، وتنافسهم في الخصال الحميدة، وما جُبلوا عليه من الخلق الكريم، من عزّ الجوار  وحماية النّزيل والوفاء بالقول والعهد، والصّبر على المكاره، والثّبات في الشّدائد، والإغضاء عن العيوب، والتجافي عن الانتقام، ورحمة المسكين، وبرّ الكبير، وتوقير أهل الدّين، وقرى الضّيف، والإعانة على النّوائب، وعلوّ الهمّة وإباءة الضّيم، ومقارعة الخطوب، فلهم في ذلك آثار ينقلها الخلف والسّلف".

 

من هذه الأعراق انحدر ماسينيسّا وحفيده يوغرطة وكل القادة اللّوبيين العظماء. كما ورد ذلك في كتاب "تُونس عبر التّاريخ" للمؤرخ أحمد عبد السلام.

 

 وبالرّجوع إلى كتاب "صَالامبو" لــ " فلوبار"، فإنّنا نلاحظ دقّة الوصف لمدينة الكاف الضّاربة جذورها في أعماق التّاريخ . وكما عُرفت المدن السّاحلية، مثل سوسة والمنستير والمهدية وصفاقس بأسوارها القديمة لحمايتها من الغزوات والهجمات البحريّة المتكررة، فإنّ مدينة الكاف اشتهرت، هي كذلك، برباطها المتين لصدّ الهجمات البرية للأعداء.

 

ووصف صالّوست (Salluste) الكاف بأنها كانت محميّة جول سيزار وأوغيست، وقد بلغت في عهدهما قمّة الرّخاء والتقدّم والرفاه. كما قارنها الرّومان بــ : قسنطينة، وعرفت آنذاك باسم "سِيرطا نوفا" Cirta Nova) ) الموجود في الكتابات والرّسوم، وهو ما يؤكد لنا قيمتها في العهد الرّوماني، وحتى الحقبة البيزنطية. وكانت الكاف فيها محتفظة بشيء من الرّفاه والتّقدم . هذا، وإنّ آثار الكنائس والأعمدة لا زالت شاهدة على معمار الكاف القديمة.

 

ولئن كانت مرافئ المدن السّاحلية حافزًا على تنشيط التّجارة البحرية، ورابطا بين الحضارات في المتوسّط فإنّ الكاف كانت هي الرّابط المتين والوحيد بين نوميديا وإفريقيا، كما هي الحال اليوم (فهي الرّابط بين سوق أهراس وتونس) . وإذا كانت المدن السّاحلية هي مفاتيح المشرق على المغرب من حيث التّبادل التجاري، فإنّ الكاف كانت ولا تزال مفتاح المغرب والمشرق بامتياز.

 

3- طاولة يوغرطة :( La table de Jugurtha )

 

لئن اشتهرت طبرقة بجزيرتها وشموخ الحصن الإسباني كالتّاج فوق رأسها، واقتران اسم جندوبة بشهرة مدينة بلاّريجيا، عاصمة النّوميديّين، وغارالدّماء بآثار شمتو وتبرنق، وتبرسق بمدينة دقّة العظيمة من ولاية باجة، فإنّ قلعة سنان البَعيدة عن الكاف بـأكثر من 60 كلم تقريبًا إلى الغرب قد فازت هي كذلك بانتصاب طاولة ضخمة، تتراءى لك عن بعد مستطيلة، شامخة فوق الضباب، وهي تعلو قمّة جبل "بوجابر" القريب من مدينة " القَلعة". إذا كنت في مدينة الكاف، في يوم ربيعيّ صحو، فاصعد قليلاً نحو القصبة والتفت غربًا فسترى طاولة يوغرطة البربريّ على بعد حوالي 60 كلم منتصبةً فوق قمة الجبل، في شكل مستطيل وكأنّها مائدة هبطت من السّماء.

 

إنّ طاولة يوغرطة البربري ليست مفخرة الكاف فحسب، بل هي مفخرة تونس قاطبة. فكما تفخر مصر بهرم "خوفو" وبتمثال "أبو الهول"، فإنّ تونس فخورة بما تزخر به من معالم أثريّة جدّ مرموقة ومعتبرة رغم الإهمال والسّرقات والإتلاف.

 

4- الكاف في عهد الاستعمار

 

وأخيرا، نأتي إلى الفترة الاستعماريّة التي أطنب فيها كاتب النّص الفرنسيّ مادحًا المعمّرين والمستعمرين بأنّهم جلبوا معهم الحضارة التي كانت غائبة، وعمّروا الأرض التي كانت فلوات جدباء، قاحلة ... إنها مبالغات ما أنزل الله بها من سلطان. فالاستعمار كان يعطي الفُتات باليد اليُسرى ويحصد كلّ الخيرات بلا حساب باليد اليمنى ويُرسل بها إلى بلاده. وأمّا الطّرقات التي مدّها والسّكك الحديدية التي ربط بها مواطن الإنتاج الغزير بالموانئ ومحطات الأرتال، فليست لسواد أعيننا، بل هي الطّرق التي كانت تفرغ البلاد من ثرواتها بترحيلها عبر البحر.

 

إذن، فالطرح الوارد في النّص الفرنسي الذي كان يمجّد المستعمر وأعماله طيلة ثلاثة أرباع القرن، هو هراء فارغ ... فماذا ترك لنا المستعمر بعد خروجه سنة 1956م؟  استقلال يقابله فقر "تام" (مجاعة ، قحط، بؤس، يأس، شتى أنواع الأمراض الفتّاكة، جهل، أمّيّة).

 

وأمّا مدح أنفسهم بأنهم دخلوا الكاف فوجدوا أزقّةً عربيّة متّسخة فنظّفوها، وأنهجًا ضيّقة وملتوية فأصلحوها وصوّبوها، وأقاموا الشّوارع الطويلة، وسيّجوا الحدائق وزرعوها ورودًا، فهذا كلام مردود على قائله.

 

فالمستعمر كان ينهب ثروات البلاد بشراهةٍ مسلّطا سيفه المسلول، وفارضا حجّة القوّة، واليوم ها هو يواصل نهبه بطرق ووسائل أخرى هي أدهى وأمرّ من التي كان يستعملها سابقًا. 

 

المراجع

 
  • حسن حسني عبد الوهاب، خلاصة تاريخ تونس، المكتبة العربية الشرقية، الطبعة الثالثة، تونس 1373هــ.     La Dépêche tunisienne 
  • La dépêche Française No. 2103,15 Mars 1896.
  • CH. M  Monchicourt, La Région du Haute - tell en Tunisie (Le Kef, Téboursouk, Mactar, Thala), Essai de Monographie géographique,  Librairie Armand Colin, Paris 1913.   Livre
  • Em. Espérandieu, Etude sur Le Kef, Librairie Editeur, Paris 1888.
  • Le Général Polot, Les Tombes Militaires et Le Souvenir Français En Tunisie 18881- 1923, Imp. G. Guinde, Tunisie.
  • La Tunisie à vol d'oiseau : notes de voyage, 1909 / Evremond-LucasLe Voleur Illustré, Cabinet de Lecteur universel, Mai 1881.
  

مائدة يوغرطة، هي صخرة كبيرة جدًّا على شكل مائدة، وهي تمثل وجهة مفضّلة للسّياح

 

في جهة الكاف.

 


  
 

[1] وفق التّقرير الذي أوردته صحيفة لوفيغارو Le Figaro الفرنسيّة في عددها الصّادر بتاريخ 10 أفريل سنة 1881م فإن قبيلة خمير تنقسم إلى أربعة فروع هي: 1- الصّول: ويحكمها 14 شيخًا، وفي مخزونها3.500 بندقية، 2- الدّادمركة: وعلى رأسها 14 شيخًا، وفي مخزونها 4.000 بندقيّة. 3- المسالمة: وعلى رأسها 12 شيخًا، ولها 2.400 بندقية. 4- الشّيحيّة: يشرف عليها 9 شيُوخ، وفي حوزتها 2.500 بندقية. وهذه الفروع القبليّة لم تمسّها المجاعة التي حدثت عام 1867م لأن أهاليها كانوا لا يسكنون بالمجمعات السّكنية، بل كانوا متفرّقين في الجبال متّخذين من الخيام والأكواخ مأوًى لهم. 

    

[2] تضم القبيلة الكُبرى لـ"لرّقبة" وشتاتة، وأولاد سديرة، والمراسن، وأولاد علي مفدّة، والفزُوع، وبني مازن، وأولاد. سلطان، والحكيم، والغزوان. وهذه القَبيلة بها ما يُناهز عشرة آلاف بندقيّة.(صحيفة لوفيغارو Le Figaro ، 10 أفريل 1881م). 

   

[3] Aristide Letourneux, , Rapport Mission Botanique en 1884 ( Nord , Sud et Ouest de la Tunisie ), Hachette 1887, p.28

   

[4] التليلي العجيلي، الطّرق الصّوفية والاستعمار الفرنسي بالبلاد التونسية (1881-1936م)، منشورات كلية الآداب بمنوبة، تونس 1992، ص. 116-117. 

   

[5]  صحيفة لو بوتي باريزيان (Le Petit Parisien )، الصّادرة بتاريخ 2 ماي 1881م .

   

[6] صحيفة لو بوتي باريزيان (Le Petit Parisien )، العدد نفسه.

   

[7] Affaires de Tunisie 1870-1881, Imprimerie Nationale, Paris p. 311.

   

[8] [8] صحيفة لانترانزيجان (  L'intransigeant)، العدد الصّادر بتاريخ 3 ماي 1881م؛ Bulletin de la Médecine et de la Pharmacie Militaires, No: 285, Octobre 1881.  Bulletin de la médecine et de la pharmacie militaires Bulletin de la médecine et de la pharmacie militaires

   

[9] صحيفة لو بوتي باريزيان (Le Petit Parisien )، العدد الصّادر بتاريخ 2 ماي 1881م .

   

[10] للاطلاع على تفاصيل نقل هذه البطاريّة وبقيّة المركبات بواسطة الجنود والخيول من سوق أهراس إلى غارالدّماء عبر سيدي الهميسي والطرق التي سلكها الجيش وكيفيّة تهيئة هذه الطّرق، انظر:  Revue d'artillerie, (Avril-Septembre 1882), dixième année, Tome XX, Paris 1882, p . 317-323.

   

[11] صحيفة لا لانتارن (La Lanterne)، العدد 1475 الصّادر بتاريخ 5 ماي 1881م.

   

[12] تقع جزيرة "سانت مارغريت" (Sainte-Marguerite) مقابل مدينة "كَان" (Cannes) الفرنسيّة مباشرة. ومنذ الاحتلال الفرنسي للجزائر عام 1830م استخدمت الجزيرة مكانًا لنفي المعارضين والمقاومين لسلطات الاحتلال. وفي عام 1881م اعتقل عدد من الثائرين التّونسيين من قبائل خمير ووشتاتة وتمّ نفيهم إلى هذه الجزيرة، ولم تتم إعادتهم إلى موطنهم إلاّ بعد إخماد الثّورة بشكل كامل. 

 

   

  

تم عمل هذا الموقع بواسطة