الافتتاحية

أنتَ كَذلك، مَتى تكتُب مَقالك؟

       

بقلم: مصطفى الستيتي

 

ليست الكتابة مهارة تُولد مع الإنسان بالفِطرة، وليست صَنعةً يَستطيعها أناسٌ دون أناس آخرين، بل هي مهارة مكتسَبة تتكوّن مع الممارسة والمداومة شأنها شأن أيّة صنعة أخرى يمارسها الإنسان في الحياة. وكلّ فرد في حاجة لأن يُعبّر عمّا في عقله من أفكار وعمّا في قَلبه من مَشاعر وأحاسِيس، وكثير من النّاس يصعّدُون ما في داخلهم بواسطة الكتابَة، ولولاها ربّما انفجَرُوا أو أصيبوا بأمراض شتّى. والشّخص الصّامت لا نَستطيع أن نفهمه، وإنّما نفهمه عندما يتكلم أو يَكتب، فالكتابة مرآة لصاحبها، وقد قيل "المَرء مخبوءٌ ورَاء لِسانه" فإذا تكلّم عُرف.

كل إنسان لديه طاقات تَعتمل بِدَاخله فإذا لم يُخرج تلك الطّاقة أَرهقته، سواء كانت تلك الطّاقات بدنيّة أو فكريّة أو عاطفيّة… وبعض النّاس يخشى من الآخر، ولا يُريد لأحدٍ أن يَعرف ما يدور بِداخله فيُفضّل الصّمت ويضلّ يأكل نَفسه، والنّار تأكل نفسَها إن لم تَجد ما تأكله. فماذا تصنع الكتابة؟ إنها تجعلك تعبّر بارتياح عن تلك المشاغِل والهُموم دون أن يَلومك قَلمك أو يَعتب عليك الورق الذي تَكتب عليه. وبعض النّاس يكتُبون ويحتفظون بكِتاباتهم، ولا يهُمّهم أن يقرأ الآخرون ما يَسطرُون، وربما تَجدهم سُعداء بذلك، المهمّ عندهم أنهم تخلّصوا من حملٍ ثقيل يسكن بداخلهم.

ما نريده هُنا هو أن نَكتب لكي يَستفيد الآخر ممّا نكتب، لكي نعبّر عن فكرةٍ أو قناعةٍ معيّنة، أو أن نردّ على فكرةٍ أخرى ونَنقُدَها أو ننتقِدها، أو أن نقترح أفكارًا ترجع بالفائدة على المجتمع، أو أن نُعرّف بكتابٍ ونعرض ما فيه من الأفكار… فغايتنا الحِوار الفِكري المعرفي الذي يتطوّر وينمو بتفاعل الأفكار مع بَعضها البَعض.

وأكثر النّاس، حتى المثقّفون منهم وأصحاب المواهب والطّاقات المتميّزة يستنكفُون من الكِتابة، وربّما ينقضي عُمر المرءِ كلّه ولم يَترك خلفه أثرًا من كتاب أو مقالٍ يدلّ عليه، فهو كمن لم يُوجد في هذا العالم ولم يَعش يومًا في هذه الدّنيا. وهذا مُؤسفٌ، فالمرء يُخلّد بِفكره وآثاره أكثر ممّا يُخلد بنَسله وصِغاره، لأنّ الأثر الفكريّ أطول عمرًا وأوسع انتشارًا. وتُوجد جُملة من العَوائق تَجعل صَاحبها يُحجم عن الكِتابة، ويمكن أن نُورد هنا بَعضها:

- قلّة القِراءة: الكِتابة تَكون دائمًا مُرتبطة بالقراءة، فمن لا يقرأ جيّدًا لا يَستطيع أن يَكتب. والقراءة الجيّدة تعني أوّلاً التّعلّق بالكِتاب واتخاذه خليلاً، وثانيًا حُسن اِختيار ما نقرأه من حيث المضمون والأسلوب. فالقِراءة الجيّدة تصنع كاتبا جيّدًا.

-الرّهبة من الكِتابة: في جميع الأمور تكون الخُطوة الأولى هي أصعَب المراحل، ثم شيئا فشيئًا يتعوّد الإنسان وتذهب تلك الرّهبة التي كانت تنتابه في البِدايات. ولا يَختلف الأمر في الكِتابة، فما إن يخطّ الفَرد كِتاباته الأولى حتّى يَنطلق، ومع الوقت يَبدأ في ملاحظة التّطور الّذي يَحصل والفَرق بين كِتاباته الأولى واللاّحقة.

- الخَوف من اِنتقاد الآخرين: كلّ إنسان في العَادة، عندما يُنجز أيّ عَمل أيّا كانت طَبيعة ذلك العمل، يَودّ أن يَرى صَداه عِند المتقبّل. فمقياسه هو الآخَر وليس بالضّرورة ما يقتنع به هو. وكلما لاقى الإنجاز قبولاً واستحسانًا لدى الآخر زادت همّته واكتَسب ثقة أكبر في نفسه. والّذي يَكتب مقالاً مثلاً وينشره يَبدأ في مُلاحظة عَدد القرّاء وتعليقاتهم وعدد المشاركات التي تُتداول لذلك المقال وهكذا. ومن يَنتابه الخوف من النّقد وردود الأفعال السّلبيّة لا يستطيع أن يفعل شيئًا ويضل قابعًا في مكانه لا يُجاوزه.

- وهمُ "مَا أكتبه لا قِيمة له": بعض النّاس تسكنُهم أوهامٌ لا صحّة لها، فهم يَعتقدون أنّه لم يَعد لهم ما يَقولونه وأنّ الآخرين كتبوا كلّ شيء، ولم يُبقوا لهم شيئًا. وهذا اعتقاد خاطئ تمامًا. فكما أنّ لكلّ إنسان بَصمات خاصّة به في بدنه فكذلك لكلّ إنسان بَصمات فكريّة تَختلف عن بَصمات الآخرين. ويَكفي أن يَكتشف تلك البَصمات ليصبح متميّزًا. ولكلّ فرد أسلوبه الخاصّ به وطَريقتُه في التّعبير. ولاَحظ أنّك عندما تَكتب شَيئًا وتنشره أو تحتفظ به في مكان ما في بيتك ثم تَعود إليه بعد مدة، تَشعر كأنّك لست أنت الذي كَتبت ذلك، بل وتشعر بالإعجاب بما كَتبت.

إلى جانب هذه العوائق تُوجد عوائق أخرى، والذي نودّ التّأكيد عليه هُنا أنّه بالإمكان تجاوز جميع هذه العَوائق، والانطلاق دون خوف أو تردّد والبدء فورًا في الكتابة. وبالإضافة إلى ما تزرعه الكِتابة في النّفس من راحة وسعادةٍ وثقة فإنّها تَدفع صاحبها إلى مزيد التّوسع في المعرفة والاطّلاع. فكلّما أردت كتابة مقال أكثر جودة احتجت إلى القراءة أكثر والعيش مع الكُتب وقتًا أطول، وبذلك تزيد مَعارفك ويُصبح لما تكتبه معنًى أكبر.

تم عمل هذا الموقع بواسطة